رئيس التحرير
عصام كامل

في الحرب العالمية الأولى.. بلد «النصف مليون شهيد»



"لو كان عندى نصف هذا الجيش لغزوت العالم"، هكذا تحدث نابليون بونابرت عن الجيش المصري، مدركا قدراته في حسم الحروب، فهو جيش تفنن في قهر الظلم، وأبدع في الدفاع عن غيره قبل الدفاع عن ذاته، ولأنه جيش عرف بقوته وبسالته، لم يفت دول الحلفاء فرصة الاستعانة به في الحرب العالمية الأولى.


الجيش المصري قدم خلال الحرب العالمية الأولى أكثر من مليون و200 ألف مقاتل، لنصرة القيم والمبادئ السامية للحضارة الإنسانية، فمن أجل هذا الهدف اشتركت مصر في الحرب العالمية الأولى؛ حيث شارك جيشها مع صفوف الحلفاء في 5 أغسطس عام 1914 من خلال القتال في ثلاث قارات "آسيا وأفريقيا وأوربا"، وبذلك كان ترتيبه الثامن عالميًا من حيث عدد القوات المشاركة في هذه الحرب.

وراء مشاركة الجيش المصري في الحرب العالمية الأولى قصة، بدأت مع إعلان إنجلترا بسط نفوذها وسيطرتها على مصر عام 1914، وذلك تزامنًا مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، ومنذ ذلك الحين أصبحت إنجلترا هي الحاكم الحقيقى للبلاد، وجاءت الحرب فرصة لعزل كل من يعارضها في سياستها، فأطاحت بـ"عباس حلمي الثاني" لصالح حسين كامل الذي منحته لقب سلطان البلاد، في إشارة منها لإنهاء تبعية مصر للدولة العثمانية التي كانت ضدها في الحرب، وتولى وقتها حسين رشدى باشا رئاسة الوزراء.

موقع مصر المتميز بين الشرق والغرب دفع بريطانيا إلى أن تتخذ من مصر معسكرا لقواتها، وأعلنت الأحكام العرفية، وقررت تكوين جيش من الجنود المصريين، بالإصافة إلى استخدامهم في تكوين "الرديف"، وهو عبارة عن فرق تشكلت من الجمَّالة والعمال الذين تولوا مهمة بناء الجسور وحفر الآبار في العديد من الأماكن، منها شرق السويس ومنطقة السلوم، ودول الشام وليبيا والسودان، وفرنسا وفالونيك في اليونان.

ووفقًا لما أوردته أستاذة التاريخ الدكتورة لطيفة سالم في كتابها "مصر والحرب العالمية الأولى"، كان للجيش المصرى دور في ترجيح كفة إنجلترا وحلفائها، ولا يقتصر الأمر على الجيش فقط، وإنما يشمل الرديف.
فقد فككت بريطانيا الجيش المصري ليسهل السيطرة عليه، وقامت بتوزيعه على جبهاتها بالجنوب والشمال والشرق، وحاربت به في تركيا، واليونان ومالطا وبلجيكا، كما كانت الجبهة الكبرى للجنود المصريين في فرنسا.
جيش الفراعنة تمكن من صد هجوم العثمانيين من الشرق، وهجوم السنوسى من الغرب، وهجوم سلطنة دارفور من الجنوب، كما حارب في الشام والعراق والجزيرة العربية.

وعلى الجبهة الأوربية، شاركت مصر بمائة ألف مقاتل من سلاح العمال، المهندسين حاليا، والهجانة حرس الحدود، وقاتلوا في الدول الأربع بلجيكا وفرنسا وإيطاليا واليونان، واستشهد عدد منهم، ودفنوا بمقابر الكومنولث بأوربا، فكانوا سببًا رئيسيا في انتصار الحلفاء، ومنح العديد منهم وسام فيكتوريا، الذي يعد أرفع الأوسمة العسكرية التي تمنح للقادة المؤثرين في التاريخ، حيث قاتلوا في الكثير من الدول التي شهدت الحرب بالقارة العجوز، وفقدت مصر خلال الحرب ما يقرب من نصف مليون شهيد.

وتأكيدًا لدور الجيش المصري في الحرب العالمية الأولى، سجلت هيئة البحوث العسكرية المشاركة المصرية مع قوات الحلفاء في ثلاث قارات، وذلك من خلال صدّ هجوم العثمانيين من الشرق، والحرب في الشام والعراق والجزيرة العربية دفاعًا عنهم في آسيا، وصدّ هجوم السنوسي من الغرب، وهجوم سلطنة دارفور من الجنوب في أفريقيا.

الدور البارز للجيش المصري في الحرب العالمية الأولى، أكد عليه عبر العديد من وسائل الإعلام الدكتور أشرف صبري، الباحث في تاريخ مصر العسكري، كاشفًا أنه استطاع العثور على سفن غارقة في شواطئ الإسكندرية تعود إلى تلك الحرب، وتدلل على مشاركة مصر وأبناء شعبها فيها، وكيف كانت مصر نقطة الحلفاء الأولى للوصول إلى الدولة العثمانية، وهو ما جعل مصر تتعرض لهجوم من قبل القوات الألمانية والتركية أثناء الحرب.

رحلة البحث عن صحة مشاركة مصر في الحرب العالمية الأولى، بدأها الدكتور صبري بعد اكتشافه وثيقة رسمية تؤكد أن مصر أقرضت بريطانيا أثناء الحرب العالمية الأولى ثلاثة ملايين جنيه إسترلينى، لكن بريطانيا لم تسدد هذا الدين حتى هذه اللحظة، وهو ما دفعه للبحث عن كل المعلومات التي توضح العلاقة بين مصر وبريطانيا في ذلك الوقت، وكان من بينها ما جاء في كتاب الدكتورة لطيفة سالم "لم يتوان القائد العام للجيوش البريطانية عن الإلحاح في اتخاذ الإجراءات الفعالة للحصول على العدد اللازم من العمال"، بالإضافة إلى تأكيدها في الكتاب ذاته، "مصر والحرب العالمية الأولى"، أن ديون مصر لدى الدول الأوربية مثل إنجلترا وبلجيكا هي ديون موثقة، فقد كان مستشار المالية لدولة بلجيكا في ذلك الوقت يدون كل ذلك، حتى وصل إجمالي ما اقترضته بلاده من مصر ثلاثة ملايين جنيه إسترليني، والتي لم تكن منحا مثلما يروجون.

وسواء اقترضت بريطانيا وبلجيكا من مصر أم لا، فلا يمكن لأي منهما إنكار دور مليون و200 ألف جندي مصري في تحقيق انتصارهم، كما أنه لا يمكن الحديث عن الحرب العالمية الأولى دون الحديث عما يقرب من نصف مليون من عمال وفلاحى مصر دفنوا في قلب مساحة خضراء تفوح برائحة الورود والأزهار في كل من فرنسا وإيطاليا ومالطا واليونان.

فقد دفنوا في مقابر أشرفت على تأسيسها هيئة الكومنولث المسئولة عن رعاية مقابر ضحايا الحروب، والتي حرصت على الحفاظ على مجموعة كبيرة من البيانات التي تدل على القرى التي ينتمى إليها الجنود المصريين بالتفصيل، وبذلك يحتل الجيش المصرى المرتبة الخامسة في ترتيب أعداد الشهداء على مستوى الدول الحليفة.

وتقديرًا للدور المهم الذي قام به الجيش المصري خلال تلك الحرب، دأبت القوات المسلحة المصرية على الاحتفال سنويًا بذكرى الحرب العالمية الأولى، وما قدمه الجيش المصرى من بطولات وتضحيات وأعمال جليلة ساهمت في الانتصار للقيم والمبادئ السامية للحضارة الإنسانية.
الجريدة الرسمية