رئيس التحرير
عصام كامل

منسيات


قرأت مؤخرًا كتاب (سلطانات منسيات) للكاتبة المغربية المميزة «فاطمة المرنيسى»، وتستعرض في كتابها الرائع تاريخ عدد من النساء اللاتى استطعن أن يصلن إلى سدة الحكم فيما سمته الكاتبة (ثورة الحريم)، حيث كانت الجوارى يخططن للوصول إلى الحكم من داخل قصر الخلافة، ومن على فراش الملك، بل من داخل قلبه، حتى استطاعت من نجحت منهن، أن تكون شريكة لممثل الله على الأرض في خلافته! والأمثلة في ذلك كثيرة.


ربما كان أشهرها قصة «حبابة» جارية «يزيد الثانى ابن عبدالملك» الذي وضع دفة الحكم بيديها – كما ذكر الطبرى– وكان يردد أمامها وهو في قمة النشوة، أنه يريد أن يطير! وكانت هي -الجارية- تذكره بأن له مهمة مقدسة على الأرض إذ إنه هو الخليفة، لذا عليه ألا يطير بعيدًا. وأيضًا قصة «الخيزران» التي امتلكت الجمال والذكاء والإغراء والقوة، فكانت الحاكم الفعلى للإمبراطورية الإسلامية خلال ثلاثة عهود، هي عهد زوجها الخليفة المهدى ثم ابنها الأكبر الخليفة الهادى.

ثم ابنها الأصغر والمدلل الخليفة هارون الرشيد، الذي اعترف بشراكة أمه له في الحكم وأظهر للعالم أن اقتسام الحكم مع امرأة ليس بالأمر المخجل. وبين كل قصص النساء اللاتى يحكمن فحكمن، تظل الأميرة الفاطمية «ست الملك» هي الأكمل من وجهة نظرى، فهذه الفاتنة صاحبة الميول الغامضة لم تحاصر فقط بالقواعد والتقاليد التي أجبرتها أن تحكم من الظل، وإنما حوصرت أيضًا بإعجاب الخلفاء، وبجنون أخيها الحاكم بأمر الله الذي استبد بها وعذبها بغيرته عليها كما لو أنه كان عشيقها!

ولكن الأميرة المفتونة بالعلم تحايلت على جنونه، حتى أنها أنقذت من بين يديه العالم العظيم «ابن الهيثم» بعد أن حكم عليه بالإعدام، وتبنت موهبته العلمية حتى اكتشف نظرية انكسار الضوء في أروقة الأزهر، ولا أجد عجبًا في أن تكون ست الملك هي قاتلة أخيها الحاكم بأمر الله، بل أجدها النهاية المنطقية لجنون الحاكم ودهاء ست الملك التي قادت الإمبراطورية بعد موته باسم الخليفة (الطفل) الظاهر. وغيرهن كثيرات ممن حاربن القانون المقدس واستطعن التحايل عليه لكنهن لم يستطعن كسره.

وقد لاحظت أن قصصهن جميعًا تتشابه، فحياة كل منهن عبارة عن سلسلة متصلة من المعاناة تبدأ بالقتال من أجل أن تكون (جارية) مميزة في قصر الخلافة، ثم (جارية) الخليفة المفضلة، ثم أم أحد أبنائه – وربما كررت المحاولة مرات ومرات لتكون أما لصبى وليس فتاة وربما أفل نجمها خلال سنوات المحاولة– ثم زوجة له، وهى مرحلة أعتقد أنها صعبة، فكيف لجارية – وإن كانت المفضلة– أن تقنع سيدها بأن يتزوجها علمًا بأنه على أي حال يعاشرها ويمتلكها بالمعنى الحرفى، وإن نجحت خطتها في إقناعه بالزواج بها، يبدأ النضال الأصعب ليكون ابنها من بين كل أبناء الخليفة هو ولى العهد.

وأخيرًا تكون هي أم الخليفة، فتحكم في شيخوختها كما في شبابها.. من الظل. لا أعتقد أن وضع المرأة العربية تغير كثيرًا منذ ذلك الحين وحتى الآن، ولكن المجتمع الذكورى تحايل عليها باسم الدين فاستبدل عبوديتها القسرية بعبودية أخرى تختارها المرأة بكل رضا، ظنًا منها في غير محله أن في انسحاقها للرجل وذوبانها فيه تدينًا، كما أن نظام تعدد الزوجات ما زال قائمًا وإن تراجع في بعض المدن بضغط المتطلبات الاقتصادية. إن المرأة العربية كما يريدها الرجل (جارية)، سواء في قصور الخلافة أو في عشوائيات شبرا.
الجريدة الرسمية