"تمرد" أمي ليس بأجر
barghoty@yahoo.com
في واقعة غير مدبرة، هتفت أمي من خلفي "تسلم يا جيش بلادي"، حينما لهجت أنا بأول القصيد "تسلم الأيادي"، لتجد زوجتي نفسها مدفوعة بالسليقة في تواز وطني غير مصطنع ولا مأجور، لنكرر ثلاثتنا: تسلم الأيادي .. تسلم يا جيش بلادي.
لم أطلب الترديد من خلفي، فحين دخلت ميدان النافورة ذات مساء، فوجئت بدورانه محاطا بفتيات ونساء بين العشرين والخمسين من العمر ـ كما بدا من الشكل والهندام، رافعات "الكف الناقصة"، أو "رمز رابعة"، الشعار الأصفر الذي كاد يحل محل علم مصر في دولة الخلافة.
كات النسوة يرددن هتافات مكتومة، لم أسمع منها بوضوح سوى: "ضحكوا علينا وقالوا إرهاب"، فما كان منى إلا فتح النوافذ الأربع للسيارة، مع ترديد مطلع الأغنية الوطنية أربع أو خمس مرات، فكانت وردا أعاننا على تجاوز دائرة الميدان، حتى دخلت السيارة شارع 9 في المقطم.
لم أحفظ من الأغنية إلا مطلعها، على الرغم من أنها صارت نشيدا وطنيا جديدا لمعظم المصريين، كما أصبحت بديلا للصخب العشوائي الذي يصاحب أسراب "التوك توك" في الأقاليم، والأحياء الشعبية على حافتي القاهرة والجيزة، ومعظم عواصم محافظات مصر.
أسعدني جدا اندفاع أمي وزوجتي من خلفي، لأتبين أنهما من بين اللائي والذين تمردوا طوعا على حكم "الإخوان" في مصر عاما كاملا، وشاء الله أن يهديهما صدفة غير موقوتة، لتسجيل اعتراضهما على حكم الإخوان، وتظاهرات أعضاء الجماعة ومناصريها المضحوك عليهم.
وعلى الرغم من ذلك، لم تسع أمي للإدلاء بأحاديث صحفية، ولم تذهب إلى الفنادق للمشاركة في مؤتمرات مريبة، لكنها تكتفي وتسعد بما تراه من أبناء مصر في معظم الميادين والشوارع والمقاهي وحتى الغيطان، يرفعون شارات النصر في وجه أعضاء الجماعة التي باعت حدود مصر سرا، ولعنتها جهرا.
لم تطالب أمي بإدراج اسمها في لجنة الخمسين التي تصوغ الدستور، على الرغم من أنها تمثل قطاعا عريضا من أبناء الشعب لا يقل عددا عن 10 ملايين أم من جيلها، هن الأطول عمرا في مصر حاليا، والأكثر كفاحا، وهن من أنجبن الأجيال التي تطلق على نفسها "النخبة" و"الصفوة" حاليا.
تأكدت من أن أمي لم تنو الترشح للبرلمان، ولم تطالب بأن يكون لها مرشحا بعينه في رئاسة الجمهورية، وحتى الآن لم أسمع عن اختلاف بينها وبين أخواتها وزميلاتها من الجيران، حول طبيعة الشخص الذي ينبغي أن يكون رئيسا لمصر في الفترة المقبلة.
فقط ترد أمي على سؤالي: انت عاوزة مين يبقى رئيس مصر؟
ـ والله اللي تشوفوه يابني، احنا علينا نخلف ونربي بس.
تلك إجابة فطرية سليمة، لأم خبيرة في شئون الولادة والتربية والكفاح، ومع ذلك لم تبحث عن "شال" غزاوي "تقرط" به رأسها، كما فعل شباب حركة "تمرد"، لزوم الكاميرات والأحاديث التي صدعوا بها رؤوس الناس، حتى أصبحوا ممجوجين للعامة.
فرق كبير بين من يعمل للوطن ومن يعمل للذات، فالأول لا ينتظر أجرا ولا شكرا، والثاني "يلبد في الذرة"، حتى تحين الفرصة لقنص الغنائم.
أسجل هنا، أنه لا فرق بين أعضاء الحركة ـ الذين نسوا أنفسهم، وستكشف الشهور المقبلة هوياتهم الحقيقية، وبين أعضاء الجماعة، الذين فرغوا من ثورة 25 يناير، لتدفعهم دناءتهم نحو الغنائم السياسية.
انتخابات قبل الدستور، أغلبية برلمانية، رئيس مجلس شعب، رئيس مجلس شورى، تفصيل دستور، انتخابات رئاسية، تزوير إرادة الناخبين، تزوير بطاقات لزوم الشيء، الفوز بالرئاسة، ثم التكويش على مفاصل الدولة، والانفراد بقيادة الحافلة، لتصطدم الدولة بالحائط.