رئيس التحرير
عصام كامل

مع الزاهدين.. الجنيد البغدادي إمام المدرسة الصوفية السنية

ضريح الإمام الجنيد
ضريح الإمام الجنيد البغدادي، رحمه الله، فيتو

نموذج حي للزهد الإسلامي.. استحق عن جدارة، لقب سيد الطائفة (أي رئيس طائفة المتصوفين)، وطاووس العلماء، وتاج العارفين، وشيخ طريقة التصوف، ومُقدّم الجماعة. 
كثيرا ما استشهد بأقواله مشايخ السلف، واتخذه جمهور الصوفية قدوة وأسوة، فكان مدرسةً وحده؛ لأنه جمع بين العلم والعمل، وبين العقل والقلب، وألغى الفجوة بين الحال والسلوك، وضرب أروع الأمثلة للتصوف السُّني المعتدل؛ القائم على كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يخالف يوما كلمته الشّهيرة، التي اتخذها شيوخ الصوفية شعارا: "عِلمُنا مضبوط بالكتاب والسنة".
هو أبو القاسم، الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي القواريري الخزاز. 
أصله من نهاوند، إلا أن مولده ومنشأه ووفاته كانت ببغداد، ولذلك يكنى بالنهاوندي البغدادي. 
أما لقب القواريري، فأخذه عن أبيه؛ لأنه أبوه كان يبيع الزجاج، بينما كان هو خزازا (يعمل بصناعة الملابس).

لازم جماعةً من العلماء، ودرس الفقه على أبي ثور أحد تلامذة الإمام الشافعي. 
وكان أبو العباس بن سريج الفقيه الشافعي، مصاحبا له. واشتهر بصحبة خاله السري السقطي والحارث المحاسبي، وُلِدَ عام 221 تقريبا وتوفي عام ٢٩٧ من الهجرة. 
ويوم وفاته، خرجت بغداد عن بكرة أبيها، وبلغ عدد مشيعي جنازته نحو ستين ألف إنسان.

تعليمه

تعلم الجنيد الحديث عن الكثير من الشيوخ، وعاصر الصالحين وأهل المعرفة، ورُزِق من الذكاء وصواب الأجوبة في فنون العلم ما لم يُر في زمانه مثله عند أحد من قرنائه، ولا ممن هم أكبر سنا منه، ممن كان ينسب إليهم العلم الباطن والعلم الظاهر، في زهد وعفاف وعزوف عن الدنيا وأهلها.

تمتع الجنيد بدرجة عالية من العلم والعبادة والزهد، ملتزما طريقة السلف من تعظيم الكتاب والسنة، والنهي عن البدع والخرافات.
قيل عنه: هو "المُربِّي بفنون العلم، المُؤيّد بعيون الحلم، المُنوّر بخالص الإيقان وثابت الإيمان، العالم بمُودع الكتاب، والعامل بحلم الخطاب، الموافق فيه للبيان والصواب.. كان كلامه بالنصوص مربوطا، وبيانه بالأدلة مبسوطا، فاق أشكاله بالبيان الشافي، واعتناقه للمنهج الكافي، ولزومه للعمل الوافي".

وأيضا: "هذا التوجه الشرعي، المتسم بالسنيّة في المنحى، والمتصف بالأخلاق في المشرب، هو الذي جعل منهج الإمام الجنيد ينال القبول والاستحسان من الفقهاء والصوفية على السواء، فلم ينكروا عليه شيئا في مسلكه، بل اعتمدوه وساروا على دربه، لما يمتاز به من رسوخ وتمكين، واعتدال وصحو، وربط بين الحقيقة والشّريعة".

رائد مدرسة التصوف السني

تلقى الجنيد علم الفقه والحديث، على أبي ثور، وكان يُفتي في وجود شيخه، وهو ابن عشرين عاما.
وما أن بلغ الثلاثين من عمره حتى رأى خاله السري السقطي أنه صار مؤهلا للتدريس والتعليم في حلقات العلم بالمساجد، إلا أن الجنيد لم يرَ نفسه أهلا لذلك، وتخوَّف من مسؤولية هذه الأمانة، "حتى رأى ليلة في المنام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكانت ليلة جمعة، فقال له صلى الله عليه وسلم: تكلّم على الناس، فانتبه من نومه وأتى باب السري السقطي قبل أن يصبح. فقال له السري: لم تُصدِّقنا حتى قيل لك. وكان أمرُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حاسمًا، فقعد الجنيد في غد للناس بالجامع".

وبدأ الجنيد رحمه الله يعقد حلقة للعلم بالمسجد، وكانت مجالسه تعد “جامعة بغداد الكبرى”، وكان عشاق الأدب يحضرون مجالسه ليتزودوا بالمُضِئ من القول، والمُشرِق من البيان، ويحف به الفقهاء ينشدون لديه القول الفصل والحكم المبين، ويحيط به الفلاسفة ليتفقهوا دقائق الحكمة وأسرار النفوس والأكوان، ويلوذ به المتكلمون ليأخذوا عنه طرائق البحث وفنون الحديث، ويتبعه رجال التصوف، فهو النبع الذي يتدفق رحيقه من عرش الإيمان.

ومن أقواله: "الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه". 
و"علمنا مضبوط بالكتاب والسنة، ومن لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدى به".

ووصف التصوف بأنه: "اجتناب كل خلق دني، واستعمال كل خلق سُنِّيّ، وأن تعمل لله ثم لا ترى أنك عملت". 
وكان يرى أن السالك لطريق الله عز وجل لا يمكنه أن يتذوق حلاوة الإيمان إلا إذا أدى الفرائض على أكمل وجه، وواظب على السنن وصلاة الليل وكثرة الصيام والبكاء من خشية الله تعالى والابتعاد عن اللغو وكثرة القيل والقال والميل إلى السكوت والإكثار من ذكر الله عز وجل، وشكر النعمة، ومجاهدة نفسه وكثرة مراقبتها، وتطهير قلبه وعقله ونفسه من كل الرذائل الدنيوية.

ورغم اتصافه بالزهد في حياته وسلوكه، إلا أنه عُرف عن الجنيد أنه كان يرفض تعريف الصوفية كنوع من اعتزال الناس والانكفاء على الذات والهروب من الحياة بعيدا عن أعين الآخرين وهمومهم، وإنما كان يشارك في الحياة العامة مؤثرا فيها.  

قال عنه الخطيب البغدادي: "سمع بها الحديث، ولقي العلماء، ودرس الفقه عَلَى أَبِي ثور، وصحب جماعة من الصالحين، منهم الحارث المحاسبي، وسري السقطي. ثم اشتغل بالعبادة ولازمها حتى علت سنه، وصار شيخ وقته، وفريد عصره فِي علم الأحوال والكلام عَلَى لسان الصوفية، وطريقة الوعظ، وله أخبار مشهورة، وأسند الحديث عَنِ الْحَسَن بن عرفة".

عن الزهد والشكر

وقَالَ الجُنَيْدُ: كُنْتُ بَيْنَ يَدَيِ السِّرِيِّ أَلْعَبُ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِيْنَ، فَتَكَلَّمُوا فِي الشُّكْرِ؟ فَقَالَ: يَا غُلاَمُ! مَا الشُّكْرُ؟ قُلْتُ: أَنْ لاَ يُعْصَى اللهُ بِنِعَمِهِ.

وقال: "ما أخذنا التصوف عن القال والقيل، لكن عن الجوع وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات؛ لأن التصوف هو صفاء المعاملة مع الله، وأصله العزوف عن الدنيا، كما قال حارثة: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري".
وقال الجنيد: "إن الله عز وجل يخلص إلى القلوب من بره حسبما خلصت القلوب به إليه من ذكره فانظر ماذا خالط قلبك؟".
وكتب الجنيد إلى بعض إخوانه: "من أشار إلى الله وسكن إلى غيره ابتلاه الله، وحجب ذكره عن قلبه، وأجراه على لسانه، فإن انتبه وانقطع ممن سكن إليه ورجع إلى ما أشار إليه كشف الله ما به من المحن والبلوى، وإن دام على سكونه نزع الله عن قلوب الخلق الرحمة عليه، وألبسه لباس الطمع، فتزداد مطالبه منهم، مع فقدان الرحمة من قلوبهم، فتصير حياته عجزا، وموته كمدا، ومعاده أسفا، ونحن نعوذ بالله من السكون إلى غير الله".
“لو أقبل صادق على الله ألف ألف سنة، ثم أعرض عنه لحظة كان ما فاته أكثر مما ناله”.

وقال رجل للجنيد: علام يتأسف المحب؟ قال: “على زمان بسط أورث قبضًا، أو زمان أنس أورث وحشة؟”.

وقال علي بن هارون بن محمد: "سمعت الجنيد بن محمد يدعو بهذا الدعاء فجاءه رجل فشكا إليه الضيق، فعلمه وقال له قل: اللهم إني أسألك منك ما هو لك، وأستعيذك من كل أمر يسخطك.. اللهم املأ قلبي بك فرحا، ولساني بك ذكرا، وجوارحي فيما يرضيك شغلا، اللهم امح عن قلبي كل ذكر إلا ذكرك، وكل حب إلا حبك، وكل ود إلا ودك، وكل إجلال إلا إجلالك، وكل تعظيم إلا تعظيمك، وكل رجاء إلا لك، وكل خوف إلا خوفا منك، وكل رغبة إلا إليك، وكل رهبة إلا لك، وكل سؤال إلا منك، اللهم اجعلني ممن لك يعطي، ولك يمنع، وبك يستعين وإليك يلجأ، وبك يتعزز، ولك يصبر، وبحكمك يرضى، اللهم اجعلني ممن يقصد إليك قصد من لا رجوع له إلا إليك".

ووقال أحد تلاميذه: سمعت الجنيد، يقول: "يا ذاكر الذاكرين بما به ذكروه، ويا بادئ العارفين بما به عرفوه، ويا موفق العاملين لصالح ما عملوه، من ذا الذي يشفع عندك إلا بإذنك، ومن ذا الذي يذكرك إلا بفضلك".

وقال الجنيد رحمه الله: "أعلم خلقه به أشدهم إقرارا بالعجز عن إدراك عظمته، أو تكشف ذاته لمعرفتهم بعجزهم عن إدراك من لا شيء مثله، إذ هو القديم وما سواه محدث، وإذ هو الأزلي وغيره المبدأ، وإذ هو الإله وما سواه مألوه، وإذ هو القوي من غير مقو، وكل قوي فبقوته قوي، وإذ هو العالم من غير معلم، ولا فائدة استفادها من غيره، وكل عالم فبعلمه علم. سبحانه الأول بغير بداية، والباقي إلى غير نهاية، ولا يستحق هذا الوصف غيره، ولا يليق بسواه، فأهل الخاصة من أوليائه في أعلى المعرفة من غير أن يبلغوا منها غاية ولا نهاية. والعامة من المؤمنين في أولها ولها شواهد ودلائل من العارفين على أعلاها، وعلى أدناها. فالشاهد على أدناها الإقرار بتوحيد الله، وخلع الأنداد من دونه، والتصديق به وبكتابه، وفرضه فيه ونهيه. والشاهد على أعلاها القيام فيه بحقه واتقاؤه في كل وقت، وإيثاره في جميع خلقه، واتباع معالي الأخلاق، واجتناب ما لا يقرب منه..".

عن الحكمة

وسئل الجنيد عن أي شيء تنهى الحكمة؟ فقال: "الحكمة تنهي عن كل ما يحتاج أن يعتذر منه.. فقال له السائل: فبم تأمر الحكمة؟ قال: تأمر الحكمة بكل ما يحمد في الباقي أثره، ويطيب عند جملة الناس خبره، ويؤمن في العواقب ضرره. قال: فمن يستحق أن يوصف بالحكمة؟ قال: من إذا قال بلغ المدى والغاية فيما يتعرض لنعته بقليل القول، ويسير الإشارة، ومن لا يتعذر عليه من ذلك مما يريد، لأن ذلك عنده حاضر عتيد.. قال: فبمن تأنس الحكمة وإلى من تستريح وتأوى؟ قال: إلى من انحسمت عن الكل مطامعه، وانقطعت من الفضل في الحاجات مطالبه، ومن اجتمعت همومه وحركاته في ذات ربه، ومن عادت منافعه على سائر أهل دهره".

وسئل الجنيد عن قوله تعالى: ﴿لا أحب الآفلين﴾، قال: لا أحب من يغيب عن عياني وعن قلبي، وفي هذا دلالة أني إنما أحب من يدوم لي النظر إليه والعلم به، حتى يكون ذلك موجودا غير مفقود. وكذلك رأينا أن أشد الأشياء على المحبين أن يغيب عنهم من أحبوه وأن يفقدوا شاهدهم.  
وقال أبو جعفر الفرغاني: سمعت الجنيد يقول: أقل ما في الكلام سقوط هيبة الربِّ جلّ جلاله من القلب، والقلب إذا عَرِيَ من الهيَبْة عري من الإيمان. 
وقال الجنيد: "المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هيِّن على المؤمن، وهجران الخلق في جنب الحق شديد، والمسير من النفس إلى الله صعب شديد، والصبر مع الله تعالى أشد".

وفاته

لما حضرت الجنيد بن محمد الوفاة، أوصى بدفن جميع ما هو منسوب إليه من علمه، فقيل: ولم ذلك؟! فقال: أحببت أن لا يراني الله وقد تركت شيئا منسوبا إليّ، وعلمُ الرسول، صلى الله عليه وسلم، بين ظهرانيهم.

وتوفي أبو القاسم الجنيد في بغداد سنة 297 للهجرة، وأخذ يتلو القرآن وهو في سكرات الموت، فقيل له لو رفقت بنفسك، فأجاب: "ما أحد أحوج إلى ذلك مني الآن، وهذا أوان طي صحيفتي".

وما ذكره أبو بكر العطار: حضرت الجنيد أبا القاسم عند الموت في جماعة من أصحابنا، وكان قاعدا يصلي، فلما فرغ من صلاته قيل له: يا أبا القاسم لو اضطجعت، فقال: هذا وقت منَّة، الله أكبر، فلم يزل ذلك حاله حتى مات رحمه الله. 

ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.

تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا

تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا

تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا

تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا

الجريدة الرسمية