رئيس التحرير
عصام كامل

ماسبيرو.. صرح الإعلام المصري بين التهميش والتحدي

كانت الليلة قبل الماضية استثنائية بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، ليس فقط لأنني عدت إلى ماسبيرو بعد طول غياب، بل لأنني شهدت كيف يمكن لصوتٍ واحد، لصوت الشيخ ياسين التهامي، أن يعيد إلى هذا المبنى شموخه، ولو للحظات، عبر مديحه العذب في حضرة رسول الله. 

كان الإنشاد الصوفي ينساب كالنور في أروقة المكان، يزيل ما تراكم عليه من غبار الإهمال والتجاهل، ويعيده إلى مساره الطبيعي: أن يكون منارةً للثقافة، ومنبرًا للعقل، وذاكرةً لوطن لم يعرف يومًا الاستكانة أمام محاولات الطمس والتشويه.


لم يكن الحفل مجرد تكريمٍ مستحق لشيخ الإنشاد الصوفي، بل كان تجسيدًا لمعركة أعمق، معركة بين الإسلام الوسطي الأزهري الذي عُرفت به مصر، وبين فكرٍ دخيلٍ حاول أن يغتال ملامحها المتسامحة. 

 

تجلّى ذلك في الكلمة العميقة التي ألقاها الشيخ أسامة الأزهري، الرجل الذي يحمل في خطابه علمًا ورؤية وبلاغة، حين أشار إلى العظيمين: الإمام محمود شلتوت والشيخ عبد الحليم محمود، وكأنه كان يُعيد التذكير بجوهر الهوية المصرية، تلك الهوية التي استهدفتها رياح الوهابية العاتية، فأفقدتها شيئًا من توازنها، وجعلتها ساحةً لمعركة لم تكن يومًا من معاركها.

 

جدارٌ صمد في وجه الريح ثم أُهمل حتى كاد يسقط

وأنا أتأمل القاعة المضيئة وأصوات المدح تتردد، كنت أشعر بأن ماسبيرو ذاته كان ينتحب في الظل. هذا المبنى الذي كان يومًا عصب الإعلام العربي، والذي ظل لعقود صوتًا للحقيقة، بات اليوم مجرد ظلٍ باهتٍ لما كان عليه. أين ذهب بريقه؟ كيف تحوّل من ساحةٍ لصناعة الوعي إلى ركامٍ من الأزمات المالية والإدارية؟

 

لقد كان ماسبيرو أحد أدوات القوة الناعمة المصرية، ليس فقط كمنصة إعلامية، بل كذاكرة وطنية ساهمت في تشكيل وعي الأجيال. ومع ذلك، تعرض لإهمال يصل إلى حدود التدمير العمد، وكأن هناك من أراد دفنه حيًا، ليخلو المشهد لمنصات أقل شأنًا، وأكثر قدرةً على التلاعب بالعقول.


لم يكن هذا السقوط وليد المصادفة، بل كان جزءًا من معركة طويلة بدأت مع سقوط نظام مبارك، حين استولت على المبنى تياراتٌ لا تؤمن بالدولة الوطنية، بل تسعى إلى هدمها. جماعات الإسلام السياسي من جهة، والفوضويون من جهة أخرى، تكالبوا على ماسبيرو، فأفقدوه بوصلته، وصادروا صوته، وجعلوه عاجزًا عن القيام بدوره التاريخي.


حتى المجلس العسكري، الذي تولى إدارة البلاد بعد مبارك، بدا عاجزًا عن استعادة السيطرة على المبنى. كان وزير الإعلام وقتها، اللواء أحمد أنيس، محسوبًا على الدولة، لكنه لم يجرؤ على مواجهة سطوة الفوضى. وأذكر جيدًا كيف أن المجلس العسكري أنتج أغنية وطنية بعنوان "علمونا في مدرستنا"، بهدف إعادة ترسيخ القيم الوطنية التي تضررت بفعل الاضطرابات، لكنها وجدت نفسها أمام اختبار قاسٍ: هل يمكن لصوت الوطنية أن يعلو وسط صخب الفوضى؟


لم تُذع سوى مرة واحدة، وحتى ذلك لم يكن إلا على استحياء، في بعض القنوات الخاصة التي امتلكها بعضٌ من رموز الرأسمالية الطفيلية أو المتوحشة –سمها ما شئت– تلك التي جعلت من الانتهازية نهجًا، ومن التلون عقيدة، فتماهت مع التيار الزاعق آنذاك، تمالئه حينًا، وتخشى سطوته حينًا آخر. 

 

لم يكن الأمر مجرد خوف، بل كان اصطفافًا انتهازيًا خالصًا، حيث تحولت بعض هذه القنوات إلى أدوات تكرّس سلطة الفوضى، خشية أن تفقد أرباحها أو يُطاح بالقائمين عليها، فآثرت السلامة على المبدأ، والتملق على الثبات، والتلون على الوطنية. وهكذا، ترددت الأغنية لمرة يتيمة، كأنها كانت رجع صدى لوطنٍ كان يحاول أن يتذكر صوته وسط ضجيج لم يكن من صنعه.

حين فقدت مصر سلاحها الإعلامي

هذه الحالة من الفوضى دفعت الدولة لاحقًا إلى البحث عن بدائل، فكان الحل في إنشاء مؤسسة إعلامية جديدة، بدأت بموقع "مبتدأ" وإذاعة "9090". لكن هذه التجربة، التي كان يُفترض أن تكون رافدًا جديدًا لاستعادة السيطرة الإعلامية، لم تحقق الهدف المنشود، ربما بسبب إدارة لم تمتلك الرؤية الكافية لتحويلها إلى قوة إعلامية حقيقية. بدلًا من أن تكون منصةً للدولة، أصبحت مجرد كيان بلا تأثير، بلا بصمة، بلا قدرة على ملء الفراغ الذي تركه تراجع ماسبيرو.


وهكذا، بدلًا من أن تُستعاد ريادة الإعلام المصري، أصبحت المشهدية الإعلامية في البلاد مشتتة، بلا صوت مركزي قوي، وبلا منبرٍ حقيقي قادر على استعادة الثقة المفقودة.

 

المسلماني.. معركة فردية في مواجهة الإهمال

وسط هذا الخراب، هناك من لا يزال يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. الصديق الأستاذ أحمد المسلماني، يعمل جاهدًا لإعادة الأضواء إلى ماسبيرو، رغم قلة الإمكانيات والموارد، ورغم العوائق التي تجعل مهمته أقرب إلى معركة ضد المستحيل. 

 

إنه يحاول أن يعيد هذا المبنى إلى الحياة، لكن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا نترك الأفراد وحدهم في مواجهة أزماتٍ بهذا الحجم؟ ولماذا وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها الحفاظ على ماسبيرو مسؤولية أشخاص، بدلًا من أن تكون قضية دولة بأكملها؟


إن ماسبيرو ليس مجرد مبنى، بل هو رمزٌ لهويةٍ وطنية، وصوتٌ لطالما كان يعبر عن مصر في محيطها العربي والإقليمي. وإذا كان الإعلام جزءًا من معركة الوعي، فإن خسارة ماسبيرو تعني خسارة واحدةٍ من أهم أدواتنا في هذه المعركة.

 


لكن، هل فات الأوان؟ ربما لا. ربما لا يزال هناك وقتٌ لإنقاذ ماسبيرو، لكن ذلك لن يكون عبر الترميم الشكلي، ولا عبر الحلول المؤقتة، بل عبر رؤية واضحة تعيد إليه دوره الحقيقي كإعلامٍ وطني رائد، لا مجرد شاشة تابعة تردد صدى الآخرين.. ماسبيرو، بكل ما يمثله، ليس مجرد ماضٍ انتهى، بل مستقبلٌ يمكن استعادته، إذا امتلكنا الإرادة لفعل ذلك.

معركة استعادة الذاكرة

في تلك الليلة، حين كانت المدائح الصوفية تتردد في الأرجاء، شعرت بأن ماسبيرو كان يستعيد صوته، ولو للحظات. لكنه لا يحتاج فقط إلى أصوات المدّاحين، بل إلى صوت الإرادة، صوت الفعل، صوت القرار.. فهل نمتلك الشجاعة لإنقاذه؟ أم نتركه يذبل حتى يصير مجرد ذكرى؟
الجواب، كما كان دائمًا، في يد من يملكون القرار.

ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.

تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا

تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا

تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا

تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا

الجريدة الرسمية