«النقد الدولى».. الحاكم بأمر الدولار.. فشل فى إنقاذ الأرجنتين.. لجوء اليونان إلى الاتحاد الأوروبي حماها من أنيابه..والتظاهرات تُجبر الإكوادور على مراجعة شروط الصندوق
تجارب طويلة خاضتها الدول مع صندوق النقد الدولى منذ تأسيسه فى 1944، وفى الوقت الذى تمكّن الصندوق فيه من إنقاذ بعض الدول من عثراتها، كان سبب خراب دول أخرى بسبب إجراءاته التى تقتضي، رفع الضرائب، خفض الدعم، أو تحرير سعر الصرف، والتى قد تؤدى إلى تداعيات اجتماعية واقتصادية داخلية صعبة.
ونستعرض معكم في التقرير التالي تجارب عدة دول مع قروض صندوق النقد الدولي بالتزامن مع تواجد كريستالينا جورجييفا، المدير العام لصندوق النقد الدولي في مصر لمناقشة عدة موضوعات مع الحكومة حول برنامج مصر للاقتراض من الصندوق.
الأرجنتين
تُعد الأرجنتين من الدول التى لديها تاريخ طويل ومعقد مع صندوق النقد الدولي، ففى دراسة نشرتها جامعة “توركواتو دى تيلا”، ذكرت أن اقتصاد الأرجنتين عانى من أزمات خلال الفترة من (1976حتى 1983)، ولجأت الحكومات إلى الاقتراض الخارجي، بدعم من صندوق النقد الدولي، مع مواصلة نفس السياسة الاقتصادية، وبلغ الاقتصاد الأرجنتينى حافة الانهيار بسبب الأزمة المالية التى جعلت الدولة عاجزة عن تسديد مبالغ خدمة الدين العمومي.
وبعد خفض الإنفاق العام بنسبة 20%، وخفض رواتب العاملين فى دوائر الدولة بنسبة 13%، تراجع نمو اقتصاد البلاد، أمام ارتفاع الديون وتجميد الأرصدة المصرفية، وتراجعت قيمة العملة المحلية بنسبة الثلثين وارتفعت نسبة البطالة إلى 20% من القادرين على العمل، وأصبح أكثر من40% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، وأطاحت الأزمة بالحكومة، وبدأ نزاع طويل امتد لأكثر من عشر سنوات بين حكومة الأرجنتين والصناديق الأمريكية بعد إعلان إفلاس الأرجنتين، وتوقفها عن سداد ديونها بنهاية 2001.
فى عام 2003 دعم الرئيس المنتخب نستور كيرشنير توقف الدولة عن تسديد الديون، ونجحت حكومته خلال فترة رئاسية واحدة مدتها أربع سنوات فى تجاوز آثار الإفلاس، وإنعاش الاقتصاد، عبر تمويل مشاريع التعليم والخدمات الصحية، وتنفيذ برنامج وطنى لتحسين مستوى المعيشة لأغلبية السكان الذين أصبح 60% منهم يعيشون تحت خط الفقر.
لكن شبح الأزمة عاد إلى الظّهور بعد الحملة الشرسة التى قادتها الولايات المتحدة وإسرائيل وصندوق النقد الدولي، ضد كرستينا فرنرديز زوجة كيرشنير وخليفته فى رئاسة الأرجنتين التى ابتعدت عن الصندوق وإملاءاته، ودعمت أمريكا المرشح اليمينى ورجل الأعمال ماوريسيو ماكري، الذى أصبح رئيسًا سنة 2015 وأصبح بمثابة الناطق باسم الحكومة الأمريكية وداعمًا لسياستها الخارجية، وعاد اقتصاد الأرجنتين لوضع الركود، الشبيه بالوضع السابق لانهيار 2001 و2002.
وأعلن الرئيس الأرجنتينى ماوريسيو ماكرى عام 2018 عن محادثات مع صندوق النقد الدولى للحصول على خط ائتمانى بقيمة 20 مليار دولار على الأقل، لتمويل ميزانية الحكومة، حتى نهاية الفترة الأولى من حكمه فى أواخر 2019، وعادت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولى الذى فرض إجراءات تقشفية.
وتراجعت العملة المحلية (بيزو) وفقدت 25% من قيمتها منذ بداية 2018، ورفع المصرف المركزى سعر الفائدة الأساسى إلى 40%، الأعلى فى العالم، لاحتواء التضخم، لكن معدله السنوى ارتفع إلى 25%، مما يعنى ارتفاعًا كبيرًا فى الأسعار مع انخفاض كبير فى القيمة الحقيقية للرواتب.
فى عام 2018، حصلت الأرجنتين على قرض قياسى بقيمة 57 مليار دولار، وواجهت الحكومة صعوبات فى تطبيق السياسات التى يطلبها الصندوق، ما أدى لأزمات اقتصادية متكررة، ولم تستطع الحكومة تطبيق جميع الإصلاحات المطلوبة، وأدى ذلك إلى فقدان الثقة، اضطرت الحكومة للاقتراض بأسعار فائدة أعلى، مما زاد من حجم الديون، ودخلت فى أزمات ديون متكررة، حيث أصبحت غير قادرة على سداد الديون المستحقة فى الوقت المحدد.
اليونان
خلال أزمة الديون فى أوروبا، تلقت اليونان حزم إنقاذ من صندوق النقد الدولى والاتحاد الأوروبي، لكن الشروط التى تضمنت تقليص الإنفاق العام وزيادة الضرائب أثارت احتجاجات شديدة، وفى عام 2015، وصل الأمر إلى أزمة سياسية عندما صوت الشعب اليونانى فى استفتاء ضد شروط الإنقاذ التى فرضها الصندوق.
وصلت اليونان إلى حد اقتراض قرابة 120 مليار دولار من مجموعة من الدائنين على رأسهم صندوق النقد الدولي، ولم يمنع ذلك من التدهور، حتى بلغت نسبة الديون الحكومية 175% من الناتج المحلى عام 2015.
وظهرت آثار اقتراض اليونان من صندوق النقد على الأوضاع الاجتماعية، فارتفعت البطالة إلى نسب تتراوح بين 20 إلى 25% بفعل برامج الإصلاح الاقتصادى التى تم إقرارها، مع إلغاء كافة أشكال الدعم الحكومي، واستجابت أوروبا وصندوق النقد الدولى لتغير الظروف فى اليونان عن طريق تخفيف بعض المتطلبات، مثل تمديد المواعيد النهائية لتنفيذ الإصلاحات وتقليل الأهداف المالية التى كان يتعين على اليونان تحقيقها، بتخفيف متطلبات معينة لتمكين الحكومة من تنفيذ سياسات تهدف إلى دعم الفئات الأكثر ضعفًا، وأحيانًا، يُسمح بتعديل فى الجداول الزمنية للإصلاحات أو تعديل الأهداف المالية بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة.
ولولا التدخل الألماني- الأوروبى لمساندة الدولة الجارة، كانت الأمور فى اليونان مرشحة للانهيار بصورة كاملة فى اليونان عام 2015، ويعتبر الاقتصاديون اليونان “محظوظة”، بسبب وجودها بالاتحاد الأوروبي، حيث أصبح الأوروبيون مجبرين، على مساندتها حرصًا على استقرار منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي، ولسد العجز المتنامى فى الموازنة الحكومية.
الإكوادور
فى 2019، وقعت الإكوادور اتفاقًا مع صندوق النقد للحصول على قرض بقيمة 4.2 مليار دولار، ما تطلب خفض الدعم عن الوقود وإجراءات أخرى للتقشف، ما أدى لاندلاع احتجاجات واسعة النطاق، ودفع الحكومة إلى التراجع عن بعض الإصلاحات الاقتصادية المقترحة وإعادة النظر فى الاتفاق.
وكانت شروط الصندوق تتمثل بتسريح الموظفين من القطاع العام، ورفع الضرائب، وخفض الاستثمار العام، وتقليص الموازنة 6% نسبة إلى الناتج المحلي، وكانت النتيجة ارتفاع معدل الفقر من 50% إلى 70%، ونسبة البطالة من 15% إلى 70%، إضافةً إلى ارتفاع الدين العام إلى 16 مليار دولار، وتخصيص 75% من ميزانيتها لسداد الديون.
وخلال عملية المراجعة، ركزت الحكومة الإكوادورية على تحقيق توازن بين ضرورة الإصلاح الاقتصادى من جهة، وضمان الاستقرار الاجتماعى والسياسى من جهة أخرى،وسمحت التعديلات للحكومة بمواصلة برنامج الإصلاحات ولكن بشكل أقل حدة مما كان متوقعًا فى البداية، مع تجنب تطبيق سياسات تقشفية صارمة يمكن أن تؤدى إلى اضطرابات اجتماعية جديدة.
ورغم مراجعة بعض شروط الصندوق، استمرت الإكوادور فى التعاون مع صندوق النقد الدولي، وفى 2020، وسط جائحة كوفيد-19، حصلت الإكوادور على تمويل إضافى من الصندوق بقيمة 6.5 مليار دولار لتعزيز الاقتصاد المتضرر من الجائحة.
باكستان
تضم القائمة أيضًا باكستان التى مرت بعدة مراحل مع صندوق النقد الدولي، فى 2019، حصلت على قرض بقيمة 6 مليارات دولار، ولكن فى عدة مراحل من التنفيذ، كانت هناك توترات حول كيفية تنفيذ الشروط، خصوصًا المتعلقة بالضرائب ورفع أسعار الطاقة، ما أدى للتأخير فى الإفراج عن بعض دفعات القرض، ومحاولات متكررة لإعادة التفاوض.
جاءت مراجعات باكستان لشروط صندوق النقد الدولى على شكل إعادة تفاوض وتعديلات فى السياسات المطلوبة بالنسبة لشروط الصندوق، وكان آخر البرامج الكبرى لباكستان مع صندوق النقد الدولى عام 2019، عندما وافق صندوق النقد على منح باكستان قرضًا بقيمة 6 مليارات دولار فى إطار برنامج الاستعداد الائتماني.
كان هذا البرنامج ينفذ عبر مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية، منها إصلاح قطاع الطاقة، وزيادة العائدات الضريبية، وخفض الإنفاق الحكومي، ومع بدء تنفيذ الشروط التى فرضها صندوق النقد الدولي، واجهت باكستان اضطرابات وضغوطًا اجتماعية، حيث كانت الإصلاحات المطلوبة (رفع أسعار الطاقة وخفض الدعم)، ما أدى لارتفاع تكلفة المعيشة وأثار احتجاجات شعبية، ما دفع الحكومة إلى مراجعة شروط الصندوق.
أثرت جائحة كورونا 2020 بشدة على الإيرادات الحكومية والاقتصاد المحلي، ما جعل تنفيذ الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد أكثر صعوبة، وطلبت باكستان تخفيف الشروط المقررة، واستجاب الصندوق للطلب، وأجريت تعديلات على البرنامج المالي، وتم السماح لباكستان بتأجيل بعض الإصلاحات، وتم توفير تمويل إضافى بقيمة 1.4 مليار دولار لمساعدتها فى مواجهة الجائحة.
وفى عام 2022، ومع استمرار تفاقم الأزمة الاقتصادية بسبب ارتفاع أسعار الطاقة عالميًا وارتفاع التضخم، دخلت باكستان فى مفاوضات جديدة مع صندوق النقد الدولي، لإعادة هيكلة البرنامج، الهدف من هذه المفاوضات تخفيف الضغط على الطبقات الفقيرة، مع الحفاظ على مسار الإصلاحات المالية.
من أبرز المطالب التى طرحتها باكستان خلال هذه الفترة كان إعادة جدولة بعض الالتزامات المالية، وتقديم دعم أكبر للقطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم، خاصة مع ارتفاع تكاليف الوقود وزيادة العبء على المواطنين.
فى يوليو 2023، بعد مفاوضات مطولة مع صندوق النقد، حصلت باكستان على تمويل جديد بقيمة 3 مليارات دولار لدعم اقتصادها، وجاء هذا التمويل بعد تعديلات فى الشروط المالية وتأكيدات من الحكومة الباكستانية على الالتزام بالإصلاحات المطلوبة، لكن بوتيرة تتناسب مع الظروف الداخلية والضغوط الاجتماعية.
تنزانيا
رفضت تنزانيا فى وقت من الأوقات قروض صندوق النقد، بسبب رفض الحكومة الالتزام بشروط معينة تتعلق بخصخصة بعض القطاعات ورفع الضرائب، ورغم أن بعض الدول الإفريقية الأخرى قبلت برامج الصندوق.
ووافق البنك الدولى على إقراض تنزانيا 1.7 مليار دولار لتمويل مشاريع التنمية خلال العام المالى 2019 – 2020، لكن تنزانيا تراجعت عن توقيع اتفاق جديد فى 2021 بسبب شروط صندوق النقد.
وتعاملت تنزانيا بشكل مختلف مع شروط صندوق النقد الدولي، مقارنة ببعض الدول الأخرى، حيث اتسم موقفها بدرجة من المرونة والاستقلالية فى تطبيق الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة من الصندوق.
وعلى الرغم من أن تنزانيا لجأت إلى صندوق النقد للحصول على التمويل، لكنها نجحت فى مراجعة الشروط وإعادة ترتيب أولوياتها الاقتصادية، وفقًا لأوضاعها المحلية واحتياجات التنمية، وبدلًا من خفض الإنفاق الحكومي، كما توصى به برامج صندوق النقد عادة، قامت الحكومة التنزانية بتوجيه الأموال نحو الاستثمار فى البنية التحتية وتعزيز الخدمات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم.
ونجحت تنزانيا فى التفاوض مع صندوق النقد الدولي، بخصوص تخفيف أعباء الديون وتحسين شروط السداد، هذه الخطوة كانت ضرورية لأن العديد من الدول النامية، بما فى ذلك تنزانيا، كانت تواجه صعوبات فى سداد الديون الخارجية نتيجة التباطؤ الاقتصادى الناجم عن الجائحة.
كما حرصت الحكومة التنزانية على التدرج فى تحرير العملة لتجنب التأثيرات السلبية الكبيرة على الاقتصاد المحلي، مثل ارتفاع التضخم أو تدهور القدرة الشرائية للمواطنين، ودفعت باتجاه تخفيض العجز المالى عبر سياسات تقشفية، وحافظت على استراتيجيتها التى تركز على التنمية الاقتصادية والنمو بدلًا من التقشف. مع الحفاظ على استثمارها فى القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة لتحفيز النمو الاقتصادى وخلق فرص العمل.