انتهاء مهمة حميدتى.. أسرار 18 شهرا من صراع الأجندات الخارجية فى السودان.. أمريكا تمنح الضوء الأخضر للقضاء عليه.. السيطرة على الخرطوم تعيد اللاجئين إلى وطنهم.. وخريطة سياسية لحل الأزمة
يظل يوم 15 أبريل من العام 2023، هو الحدث الأبرز والأكثر دموية فى تلك الدولة التى قدر لها أن تمر بأحداث عاصفة منذ وجودها، ففى ذلك اليوم شهدت الخرطوم منعطفا خطيرا عندما أعلن قائد ميليشيا الدعم السريع، محمد حمدان دقلو المعروف بـ «حميدتى»، الانقلاب على الجيش السودانى الذى يقوده الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان.
حينها فقط دفع السودان فاتورة صناعة الرئيس المعزول عمر البشير، لميلشيا محترفة تقتل العباد وتحرق الأخضر واليابس بقوة القانون الرئاسي، البشير هدف لخلق ذراع مسلحة موازية لمؤسسات الدولة الرسمية، وتم ذلك بإشراف مباشر من نائبه الأول حينها على عثمان طه، على خلفية ظهور حركات مسلحة متمردة على الدولة المركزية فى العاصمة الخرطوم بين عامى 2002 و2003، تطالب بإعادة هيكلة الدولة السودانية وبالعدالة فى توزيع الثروة والسلطة بين أقاليم السودان المختلفة.
سكان دارفور الذين عانوا الويلات، أطلقوا اسم «جنجويد» على هذه الميليشيات التى كان عناصرها يمتطون الجياد ويحملون أسلحة رشاشة ويغيرون على القرى فيحرقونها وينهبونها ويغتصبون النساء، ومع سطوع نجم قائدها محمد حمدان دقلو، جاء به إلى الخرطوم وعينه مستشارا له، وغير اسمها إلى قوات الدعم السريع، وألحقت صوريا بجهاز الأمن والمخابرات ثم لاحقًا برئاسة الجمهورية مباشرة.
رغم الهدية الثمينة التى قدمها البشير لحميدتى، إلا أنه لم يسلم منه، ومع زيادة التظاهرات المطالبة برحيل البشير وفى ظل تمركز عناصره ارتدى قناع الثورة، ولدغ صانعه وانقلب عليه بهدف خلق مساحة له داخل تركيبة النظام الجديد، ووقتها حاول الجيش الرسمى احتواءه وطلب منه انضمام قواته تحت قيادة الجيش النظامى.
ويلو بيردج، أستاذة التاريخ فى جامعة نيوكاسل البريطانية، ومؤلفة كتاب «الانتفاضات المدنية فى السودان الحديث» قالت عنه: «لقد ارتكبت قوات الدعم السريع فظاعات فى دارفور، ويثير تحركها بعد الإطاحة بالبشير ريبة الكثيرين، وخاصة المتمردين فى دارفور».
استغل دقلو مرة أخرى الخلافات مع التيار المدنى والصراع الحادث على المناصب، ومثلما انقلب على البشير انقلب على البرهان، وقرر الدخول فى معارك طاحنة مع المؤسسات الرسمية، ومنذ منتصف أبريل 2023، عاش زهو انتصارات غير واضحة الأسباب، نتج عنها نزوح الملايين وارتبكت الدولة كليا، ورأى المراقبون أن تاجر الإبل المسيطر على مناجم الذهب أوشك على السيطرة النهائية، وفجأة تبدلت الأوضاع وعاد الجيش السودانى لتحقيق الانتصارات.
الأسبوع الماضى ظهر قائد الميلشيا حميدتى، فى خطاب سيطر على مفرداته الشعور بالهزيمة وتخلى الحلفاء عنه، صحيح إنه لم يقلها صراحة لكن تحليل نبرة صوته ولغة الجسد التى سيطرت عليه، عكست ما بداخله وكشفت عن شعوره بانتهاء دوره كوكيل لأجهزة استخبارات وقوى إقليمية استخدمته لشهور وتركته وحيدا فى نهاية المطاف.
اللافت فى الأمر، إن حميدتى الذى يوصف فى الداخل السودانى بأنه أعظم عميل للخارج، ترك ما يحدث وكال للدولة المصرية الاتهامات والمزاعم حول انخراطها فى القتال بسلاح الجو، وانصب حديثه على دور القاهرة، متجاهلا معاناة ملايين النازحين فى دول الجوار، وغض الطرف عن وقائع القتل والاغتصاب على يد ميليشياته، وتحدث كرسول سلام عن مستقبل حكم أنقاض دولة مهددة بالزوال.. فماذا حدث خلال شهور الدم وماهو سر خروج حميدتى ووصفه المهزوم؟ هذا هو المهم الآن وتشرحه «فيتو» فى السطور التالية.
منذ رحيل البشير عن السلطة، ومحاولة خلق حكم مدنى للدولة وتوقيع ما عرف بالاتفاق الإطاري، ظهرت جليا الأطماع فى الحكم ورغبة التهميش، وتم رفع شعار الكل ضد الكل، وهنا يقول الباحث السياسى السوداني، صلاح خليل، إن الانقسامات والاستقطاب الحاد فى الشارع السياسى السوداني، وبين أطراف العملية السياسية جاءت بمثابة معضلة حقيقية، وفشلت المكونات السياسية فى لملمة خلافاتها وعبور المرحلة الانتقالية.
وقد أدى الاستقطاب وفق تحليل سابق للباحث السودانى، إلى انتقال التشظى إلى المكونات الاجتماعية، وبدورها تسببت الانقسامات فى تعطيل العملية السياسية، وبالتالى غياب المؤسسات المستقرة.
مع حالة التشظى التى أشار لها الباحث السودانى فى السطور السابقة، تفتح مسام الجسد السودانى وأصبح جاهزا لاستقبال الأجندات الخارجية الإقليمية والعالمية، وبات بيع الوطن على المشاع لمن يدفع أكثر، فى البداية كان التعويل على المكون المدنى، وبات الاتهام الرسمى الحصول على التعليمات من مقرات السفارات.
وبطبيعة الحال فالسلاح يغلب الحناجر، ونتيجة لذلك وقع الاختيار على «حميدتى» لتأليب الأوضاع وفرض تلك الأجندات بالقوة المسلحة، بما يملكه من نفوذ عسكرى قادر على إرباك جميع المخططات الرامية لاستقرار الدولة، وظهرت التسريبات حول دعم دول عربية له فى المعارك بالعتاد، وتسهيل جلب المرتزقة لمعاونته عبر تشاد وغيرها من دول الجوار الحدودى المرتبط بمصالح جيوسياسة مع تلك الدولة.
وعلى مدار الأشهر الماضية تقاطرت التقارير الأمريكية، حول نقل الأسلحة عبر مطارات دول الجوار إلى عناصر الدعم السريع، وكذلك جلب المرتزقة من الخارج ولم يعد الأمر مقتصرا على الأفارقة، بل أكدت تقارير استخباراتية انتقال عناصر من فاجنر الروسية، إلى مناطق تمركز الدعم السريع، وساهمت تلك العناصر فى ترجيح كفة عناصر حميدتى، فى العديد من المعارك أمام الجيش السوداني.
وفى مايو 2023، رد يوسف عز المستشار السياسى لحميدتى على ذلك الاتهام، وقال فى تصريحات لراديو مونت كارلوا حينها: إن قوات الدعم السريع لم تحصل على دعم من روسيا أو من مجموعة فاجنر، وزعم أن العقد الذى كان مبرمًا مع فاجنر كان خلال حكم عمر البشير وانتهى بسقوط نظامه.
مصادر التسليح التى تصل للدعم السريع، رصدها بصورة كاملة تقرير أعده خبراء لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، صدر فى سبتمبر الماضى، أظهر أن شحنات عدة من الأسلحة والذخيرة تُفرغ كل أسبوع من طائرات الشحن فى مطار أم جرس فى تشاد، وتسلم إلى قوات الدعم السريع على الحدود السودانية.
وكشف تقرير الخبراء المشار له، أن قوات الدعم السريع، تستخدم منطقة أم دافوق، على الحدود مع جمهورية أفريقيا الوسطى، خط إمداد رئيسيا ومركزا لتجنيد مقاتلين جدد لميليشياتها.
ولفت إلى أنه قد جرى إنشاء جسر جوى لنقل العتاد العسكرى من مطار فى ليبيا، ثم يسلم إلى قوات الدعم السريع فى إقليم دارفور عبر الحدود المشتركة.
حميدتى الراغب فى اعتلاء كرسى الحكم فى السودان، وجدت فيه إثيوبيا صيدا ثمينا يخلصها من إزعاج الجارة المتصارعة معه على حصص مياه النيل، والمتنازعة على أراضيها فى الفشقة التى منحها البشير هدية مجانية لـ أديس أبابا، مقابل شراء صمتها وإخفاء أدلة هددته بها لسنوات متعلقة بتورطه فى محاولة اغتيال الرئيس المصرى الراحل حسنى مبارك، على الأراضى الإثيوبية منتصف عام 1995.
الترتيبات بين آبى أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي، مع محمد حمدان دقلو، لم تتم فى الخفاء، وخلال الأشهر الماضية استقبله فى أديس أبابا أكثر من مرة، كان أهمها مطلع العام الجارى حينما تبنت أديس أبابا، ما زعمت أنه مقاربة سياسية، واستضافته إلى جوار أعضاء تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية” المعروفة بـ «تقدم» التى يقودها رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، بهدف توقيع إعلان سياسى وسط تغييب متعمد للجيش السوداني، وباقى مكونات المجتمع السياسى السوداني.
والمؤكد وفق المراقبون للشأن السوداني، أن قائد مليشيا الدعم السريع، قام بتلك الزيارة وغيرها من الدول التى سهلت استقباله، ليس بهدف السلام، وإنما جاءت جميعها كغسيل سمعة لتسهيل تقديم نفسه لدول الإيفاد تحديدًا، وللمجتمع الدولى بشكل عام، على أنه «رجل دولة» واتضح ذلك من زياراته لكل من أوغندا وإثيوبيا وجيبوتى وكينيا، وسهلت الزيارات فرض وجود تمثيل له على طاولة منبر جدة فى المملكة العربية السعودية.
التمدد الخارجى فى السودان عبر دعم طرف على حساب آخر، لم تغفله الولايات المتحدة الأمريكية، فهى -واشنطن- تدرك جيدا أن الدولة المأزومة الغارقة فى حرب طاحنة تقع وسط شبكة مصالح وتقاطعات إقليمية ودولية، بسبب موقعها الأفريقى المتميز وحجز مقعدها كدولة عربية مهمة ضمن الشرق الأوسط.
ومع مساعى حميدتى لتمتين علاقاته مع روسيا، واللعب بأوراق مخالفة للقواعد الأمريكية، ومع فشل احتوائه باتفاق سياسى مع باقى الفرقاء، تبدل موقف الولايات المتحدة، ونشطت الاستخبارات الأمريكية فى جمع فيض من المعلومات حول تحركات عناصره، والجهات الخارجية التى تمد له يد العون، خشية خلق بؤرة توتر جديدة مع روسيا والصين، متزامنة مع أحداث القرن الأفريقى المشتعلة وما يحدث فى غزة وبيروت، وتوترات البحر الأحمر، ومن قبل ذلك كله حرب أوكرانيا.
مع تلك الهواجس، شرعت أمريكا فى عملية خنق بطئ لقائد الدعم السريع (المارق) من وجهة نظرها، تهدف لإنهاء دوره وتفويت الفرصة على داعميه، وقررت الخزانة الأمريكية الأربعاء الماضى، فرض عقوبات على أحد كبار قادة قوات الدعم السريع، القونى حمدان دقلو موسى، شقيق حميدتى، لتورطه فى جهود قوات الدعم السريع لشراء أسلحة وعتاد عسكرى آخر مكنت عمليات قوات الدعم السريع المستمرة فى السودان، بما فى ذلك هجومها على الفاشر عاصمة شمال دارفور.
المتغيرات الحادثة فى المشهد السودانى وتسارع انتصارات الجيش واستعادة سيطرته على مناطق حيوية أهمها العاصمة، واتضاح تخلى داعمى حميدتى عنه، هربا من الصدام المباشر مع الإدارة الأمريكية، جميعها مقدمات تشير لنهاية متوقعة بإعلان سيطرة الجيش على عموم البلاد، وكتابة السطر الأخير فى قصة دقلو، لكن تبقى الشواغل الحقيقة الآن حول مستقبل العملية السياسية فى السودان، لتجنب الانزلاق مجددا إلى الفوضى، وقبل ذلك الاستعدادات لاستقبال النازحين خلال موجات العودة العكسية إلى الوطن، وهى أسئلة يجيب عنها خبراء السطور التالية.
سيناريوهات عودة النازحين والحل الدبلوماسى
يقول السفير أحمد حجاج، الأمين العام المساعد الأسبق لمنظمة الوحدة الإفريقية، إن النجاحات التى حققها الجيش السودانى تزيد من نسبة عودة اللاجئين من الدول المجاورة، خاصة أن أغلبهم كانوا من المناطق التى دخلتها ميليشيا الدعم السريع، وفروا منها بسبب ارتكاب هذه الميليشيا للكثير من الجرائم والمجازر، وقيام مقاتليها بنهب العديد من المنازل.
وتابع، أن الاشتباكات منعت وصول المساعدات الإنسانية والطبية إلى المناطق المنكوبة، وهو ما تسبب فى نزوح ولجوء الملايين، فبمجرد أن تضع الحرب أوزارها ودخول المساعدات سيبدأ اللاجئون والنازحون فى العودة إلى منازلهم.
وأكمل أن العديد من اللاجئين يعانون أوضاعا اقتصادية صعبة فى الدول التى هربوا إليها، نظرا للأزمات الاقتصادية التى تعصف بالمنطقة، لذلك بمجرد انتهاء الحرب سيبدأ الجيش السودانى فى خطة لإعادة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم، بالإضافة إلى حزم المساعدات الإنسانية والاقتصادية التى ستقدمها المنظمات الأممية والتى ستحسن من الأوضاع فى الخرطوم.
وأضاف السفير أحمد حجاج أن صعوبة توفيق الأوضاع القانونية للاجئين، تعد مشكلة رئيسية، فالأطفال لا يستطيعون الالتحاق بالمدارس أو حتى التمتع بالرعاية الطبية، ويعانى أرباب الأسر ارتفاع الأسعار وصعوبة إيجاد فرصة عمل كل هذه الأسباب تشكل دافعا كبيرا لعودتهم إلى بلادهم بمجرد انتهاء الحرب وسيطرة الجيش على الأوضاع الأمنية فى البلاد.
أما عن الحل السياسي، فأوضح السفير صلاح حليمة، مساعد وزير الخارجية للشئون الأفريقية الأسبق، أن الصراع بين الجيش السودانى وميلشيا الدعم السريع تحول إلى صراع وجودي، بعدما كان منافسة على السيطرة على النفوذ، وأدت التدخلات الخارجية إلى تأجيج هذا الصراع وتوحشه بدرجة أكبر.
وأضاف “حليمة” أن من بين السيناريوهات المتوقعة بعد انتهاء الحرب فى السودان، هو تحرك دبلوماسى مصرى فى إطار مبادرة القاهرة التكميلية والشاملة لكافة المبادرات التى أطلقتها المنظمات الدولية أو مفاوضات منبر جدة، ومن المقرر أن تطلق مصر مبادرة شاملة تجمع كل الفئات والقوى السياسية السودانية، بما فيها تيارات لم تشارك فى أى مفاوضات مسبقا، مما يجعلها من أقوى المبادرات ويعد نجاحا كبيرا للدبلوماسية المصرية.