حكاية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ.. رواية من نوعية الأسلوب الرمزي.. تشجع على العلم والمعرفة.. ورقابة المطبوعات تقرر وقف نشرها لهذا السبب
في مثل هذا اليوم من 21 سبتمبر عام 1959 بدأت جريدة الأهرام نشر الحلقة الأولى من رواية "أولاد حارتنا" التي كتبها الأديب نجيب محفوظ، وتسرد حياة الأنبياء، كما تصورها نجيب، وبمجرد نشر الحلقة الأولى قامت الدنيا وأطلقت الاتهامات وكانت النتيجة صدور قرار من رقابة المطبوعات بوقف نشر حلقات الرواية فى ديسمبر من نفس العام، لكن صمم الكاتب محمد حسنين هيكل وكان رئيسا لتحرير الأهرام على استكمال نشر حلقات الرواية.
يحكى محمد حسنين هيكل قصة نشر رواية أولاد حارتنا فى الأهرام بأن مدير تحرير الأهرام على حمدى الجمال ألح على نجيب محفوظ كتابة رواية تنشر مسلسلة فى الأهرام ووسّط توفيق الحكيم فى ذلك، وما أن انتهى محفوظ من كتابة الرواية حتى سلمها إلى الجمال لكنه بعد أن قرأها شعر بالقلق وعطل نشرها، وشكى محفوظ أمر الرواية إلى حسين فوزى الذى أبلغ هيكل بالأمر، يقول هيكل: طلبت الرواية وقرأتها فى ليلة واحدة وأعجبتنى وقررت نشرها بشكل يومى لكبر حجم الرواية وخشية أن تستغل الرواية دينيا ويوقف نشرها.
ولم تمر سوى سبعة عشر حلقة حتى صدر أمر سيادى من الرئيس جمال عبد الناصر بمنع نشر الرواية أو طبعها في كتاب أو تداولها، وطبق هذا القرار داخل مصر فقط، بعد أن اتهمه المتشددين بالتعرض الى الذات الإلهية فكانت أولاد حارتنا إحدى الروايات الأربعة التى رشحته لجائزة نوبل عام 1988، كما كانت سببا فى اغتياله ومحاولة قتله من جانب المتشددين الذين رفضوا أدبه واتهموه بالإلحاد، ووصف الشيخ عمر عبد الرحمن مؤلف الرواية بالارتداد وأصدر فتوى بإهدار دمه.
ولم يستطع أحد منع دور النشر العربية من طباعتها، فسارعت دار الآداب للنشر ببيروت عام 1962 بطبع الرواية، وتُرجمت الرواية إلى الإنجليزية والألمانية وبعض لغات أخرى، وقوبلت باحتفاء كبير فى العالم،
ولم تنشر فى مصر إلا عام 2006 وبالرغم من قرار الازهر بعد سنوات بإعادة طبع رواية “أولاد حارتنا ”، إلا أن الأديب نجيب محفوظ رفض طباعتها خاصة بعد محاولة اغتياله خشية على أسرته ثم أعيد نشر أولاد حارتنا فى مصر فى عام 2006 بعد رحيله.
أحيت الرواية الأديب بعد موته
فى المؤلف الذى قدمه الكاتب رجاء النقاش بعنوان "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ “ يقول محفوظ: إن رواية أولاد حارتنا هى عمله الروائى الذى عاد به بعد انقطاع دام خمس سنوات من 1952 إلى 1957 توقف خلالها تماما عن الكتابة مؤكدا: ”لم أصدق نفسى عندما جلست أمام الورق من جديد لأعاود الكتابة، وكانت كل الأفكار المسيطرة على فى ذلك الوقت تميل ناحية الدين والتصوف والفلسفة فجاءت فكرة " أولاد حارتنا “ لتحيى فى داخلى الأديب الذى كنت ظننته قد مات”.
وكانت أولاد حارتنا أول رواية كتبها نجيب محفوظ بعد ثورة يوليو بعد أن رأى ان الثورة انحرفت عن مسارها فكتب "أولاد حارتنا" التى انتهج فيها أسلوبا رمزيا يختلف عن أسلوبه الواقعى وقد علق محفوظ على ذلك فى أحد حوارته قائلا" إن الرواية لم تناقش مشكلة اجتماعية واضحة كما اعتدت فى أعمالى قبلها.. بل هى أقرب إلى النظرة الكونية الإنسانية العامة.
وقال نجيب محفوظ عن روايته (أولاد حارتنا) روايتى لا تخلو من الخلفية الاجتماعية، فرغم أنها تسرد قصص الأنبياء إلا أن هدفها ليس سرد حياة الأنبياء في قالب روائى بل الاستفادة من قصص هؤلاء الأنبياء لتصوير تطلع المجتمع الإنسانى للقيم التي سعى الأنبياء إلى تحقيقها كالعدل والحق والمساواة والسعادة، هذه الرواية أقصد بها قصة البشرية، وأبعد ما يكون عن ذهنى أن أكتب سير الأنبياء فى حارة، ولكن أود أن أبلغ الرجل العادى أنه حتى لو كانت حياته فى حارة، فإن الظروف تقتضيه أن يقتدى تماما بما يفعله النبى.. أى نبى.
يضيف محفوظ: القصة تصور هذا الصراع المرير الذى تزعمه الأنبياء والرسل دفاعا عن الفقراء، وتهيئة العيش السعيد للناس أجمعين حتى يتفرغوا للبحث الأعظم، ولكن ما إن تنتهى الرسالة حتى يعود الأغنياء فيقبضون على زمام الأمور، وتعود المعركة من جديد للوصول إلى العدل والرفاهية للجميع، ثم تدخل «العلم» بعد انتهاء الرسالات ليقوم بنفس الغاية وهى إسعاد الناس، ولكن المستغلين سخروا العلم لمصلحتهم أيضا، وقتلوا رمزه فى القصة، إلا أن شخصا آخر استطاع الهروب بسر الاختراعات العلمية الحديثة ليعاود الكفاح من أجل إنهاء الصراع بسبب لقمة العيش والتفرغ لمعرفة سر الحياة.
وتعتبر رواية " أولاد حارتنا" من الروايات الواقعية الرمزية، التى كتبها نجيب محفوظ، تدور أحداثها فى أحد أحياء القاهرة كما هى معظم روايات نجيب محفوظ كـ الثلاثية والحرافيش وزقاق المدق وغيرها،
للاسف الشاكين جميعا من الأدباء
يقول نجيب محفوظ : بدأت أزمة أولاد حارتنا بعد أن نشرت الصفحة الأدبية بجريدة الجمهورية خبرا يلفت فيه كاتبه النظر إلى أن الرواية فيها تعريض بالأنبياء بعدها بدأ البعض ومن بينهم أدباء للأسف فى إرسال عرائض وشكاوى إلى النيابة العامة ومشيخة الأزهر، بل وإلى رئاسة الجمهورية يطالبون فيها بوقف نشر الرواية وتقديمى إلى المحاكمة.. بدأ هؤلاء يحرضون الأزهر ضدى على أساس أن الرواية تتضمن كفرا صريحا، والشخصيات الموجودة فى الرواية ترمز إلى الأنبياء، حيث ابلغنى سكرتير شيخ الأزهر بأن أغلب العرائض التى وصلت النيابة العامة أرسلها أدباء.
وكانت دار الهلال المصرية قررت طبع نسخة شعبية من أولاد حارتنا لنشرها احتفاء منها بالذكرى الرابعة والتسعين لميلاد محفوظ. إلا أن محفوظ عارض نشر الرواية لأنه باع حق امتيازها لمكتبة الشروق، وفي الوقت نفسه تم الكشف أن محفوظ وضع شرطين لنشر روايته "أولاد حارتنا" في مصر، وهما"أن يوافق الأزهر على نشر الرواية، وثانيا أن يكتب احد المقربين من جماعة الإخوان المسلمين مقدمة لروايته، وبالفعل عرضت الرواية على لجنة شارك فيها وزير الاعلام السابق أحمد كمال ابو المجد الذى كتب بنفسه مقدمة الطبعة الجديدة من الرواية.
قصة الجبلاوى فى أولاد حارتنا
تحكى رواية “ أولاد حارتنا ” عن عزبة الجبلاوى الخاصة حيث يعيش ابناؤه، وتبدأ الأزمة عند ولادة أدهم ابن الجبلاوى المفضل عنده من دون أبنائه ويعترض الابن ادريس على هذا التفضيل فيطرده الجبلاوى من العزبة، ويكيد ادريس لأخيه أدهم وتبدأ رحلة الإنسان والشيطان التى بدأت منذ بداية الخلق بين قابيل وهابيل، ويتفرق ابناء الجبلاوى فى الحارة، وينشا فى الحارة ثلاث جبهات يظهر منها أبطال ثلاثة يرمزون إلى أنبياء الديانات الثلاث، كما يظهر فى الحارة المحدثة شخص رابع هو العلم الذى سيقضى على الجبلاوي.
في مجلة صباح الخير عام 1967 كتب الكاتب الصحفى محمود السعدنى مقالا عن نجيب محفوظ رشحه فيه إلى العالمية فقال:
اخترق عمنا نجيب محفوظ بروايته "أولاد حارتنا" حاجز الصورة الأدبى، لذلك أصبح من حقه علينا أن نجلسه على عرش الرواية العربية، وان نصدره للخارج كأعظم كاتب عربى فنان موجود في هذا الزمان، وحارة نجيب محفوظ هي حارتنا جميعا، هي حارة البشرية منذ آدم إلى آخر ابن آدم يدب على هذا الكوكب الحيران.
البشرية محكوم عليها بالكفاح
وأضاف السعدنى: لقد تساءلت وأنا أقرأ رواية “أولاد حارتنا ” لعمنا نجيب وتساءلت من هو؟ ومن يكون هذا الرجل الذي أعلن رأيه بصراحة في الجبلاوى، وفى أتباع الجبلاوى على مر العصور؟ وخرجت بجواب واحد هو أن نجيب محفوظ مؤمن متعاظم وأنه حزين، وحزنه الأشد على مأساة البشرية التي تولد وتعيش وتتعذب وتموت، وهى من خلال رحلتها تتعلق بقليل من الحقائق وكثير من الأوهام، وهدفها الوحيد والأخير أن تصل إلى القمة لتجلس وتتربع وتستريح، ولكن يبدو أنها قمة المستحيل الوصول إليها، وأن البشرية محكوم عليها بان تكافح وأن تشقى.. أجيال وراء أجيال، وأزمنة وراء أزمنة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ويا حزن محفوظ الدفين على مأساة إدريس الذي اعترض فانطرد، ويا حزنه على أدهم الطيب المسالم الذي صالح وضاع.. الاثنان كلاهما في طريق، وكلاهما له نفس النهاية ونفس المصير.