التاريخ الأسود للحبس الاحتياطي، بدأ في عصر الخديوي توفيق ونُسخ من التشريعات الفرنسية، ويضع البلاد في أزمة ضمير غير مسبوقة
واحد من أخطر الملفات التى تفرض نفسها على الواقع السياسى والاجتماعى المصرى خلال السنوات الماضية الحبس الاحتياطى، ملف ملغم وثقيل على صدر الدولة المصرية ويعرضها سمعتها للتشويه، كما يضرب منظومة العدالة فى المقتل أيًا كانت المبررات، لذا يعتبر تفكيك هذا الملف أحد أهم التحديات التى تواجه المجتمع، وهناك ضرورة قصوى لمعرفة كل التفاصيل الممكنة، متى بدأ وكيف وأخطر التعقيدات التى تواجه أى محاولة لإنهاء هذا التراث السيئ فى تاريخ البلاد، ومن هنا كان ملف «فيتو».
عرفت مصر الحبس الاحتياطى فى التاريخ الحديث منذ القرن التاسع عشر، ونص عليه قانون التحقيقات وطبق على المحاكم الأهلية، ثم عُطل العمل به حتى عام 1889 وعاد للحياة مرة أخرى بعد تعديله عام 1904.
عقب إلغاء الامتيازات الأجنبية بموجب معاهدة 1936 صدر قانون تحقيق الجنايات عام 1949، والذى تضمن تنظيم الحبس الاحتياطى، حيث منحه سلطة إصدار الأمر بالحبس الاحتياطى لقاضى التحقيق المنوط به مباشرة التحقيق لمدة شهر وذلك إذا كانت الجريمة التى يحقق فيها يعاقب عليها بالحبس دون وضع حد أدنى لمدة الحبس أو عقاب آخر أشد من الحبس.
قبل اندلاع ثورة 23 يوليو بعامين صدر قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950 والذى فرض مزيدًا من الضمانات على الإجراءات المنظِّمة للحبس الاحتياطى، وبعد الثورة استمر العمل بنفس السياقات بل أضيفت إليها ضوابط أخرى مع إصدار دستور 1971، تم تتمثل فى مبرراته ووجوب توقيته. ولكن اللافت أنها ظلت حبيسة وغير مطبقة، حتى صدر القانون رقم 145 لسنة 2006، بشأن تعديل قانون الإجراءات الجنائية، فيما يخص الحبس الاحتياطى.
وطوال هذه السنوات، صيغت ضمانات الحبس الاحتياطى على أسس التشريع الفرنسى، الذى يتشدد فى حماية الحرية الشخصية، لاسيما أن الحبس الاحتياطى يلقى بالمتهمين فى السجون سنوات على ذمة قضايا، دون أدلة كافية.
وفى التشريع المصرى، يعد الحبس الاحتياطى بمنزلة عقوبة تصدر عن سلطة التحقيق لا المحكمة، وقد يترتب عليه أذى شديد وصدمة عنيفة، ويؤذى المتهم فى شخصه وسمعته، لكن الدولة تصر على أن الحبس الاحتياطى إجراء قضائى من إجراءات التحقيق، سواء كان التحقيق ابتدائيًّا، أو كان التحقيق نهائيًّا تباشره المحكمة المختصة وهو ما رفضه فقهاء القانون.
وحسب دراسة لمؤسسة حرية الفكر والتعبير، الحبس هو سلب حرية المتهم فترة من الزمن بإيداعه أحد السجون والأصل فيه أنه عقوبة، وبالتالى يجب ألا يوقع إلا بحكم قضائى بعد محاكمة عادلة تتوفر فيها للمتهم ضمانات الدفاع عن نفسه، وذلك إعمالا لأصل عام من أصول المحاكمات الجنائية، بل هو حق من حقوق الإنسان، وهو أن الأصل فى المتهم البراءة، ومع ذلك أجازه المشرِّع للمحقق فى التحقيق الابتدائى بمجرد أن يبدأ التحقيق أو أثناء سيره.
كما عرفه الدكتور أحمد فتحى سرور، رئيس مجلس الشعب الأسبق كالتالى: “إن الحبس الاحتياطى لا يخرج عن كونه إجراء من إجراءات التحقيق فى جميع الأحوال، وأنه بهذه الصفة ليس عقوبة كما أنه ينبغى ألا يتحول إلى تدبير احترازى يجعله فى مصافِّ العقوبات”.
ضوابط الحبس الاحتياطى بعد ثورة 30 يونيو اهتمت تعديلات الدستور المصرى الصادرة عام 2014 بالحبس الاحتياطى، وأوردت فى المادة (54) الحالات التى يجوز فيها المساس بالحرية الشخصية للفرد وتقييد حريته، واشترطت صدورها عن جهة قضائية، على أن يكون الأمر بالحبس يستلزمه التحقيق.
ويعنى ذلك أن الأمر بالحبس الاحتياطى لا بد أن يكون لمصلحة التحقيق فقط، وأحال الدستور فى تنظيم أحكام الحبس الاحتياطى ومدته وأسبابه والتظلم منه إلى قانون الإجراءات الجنائية أو القوانين الخاصة بالحبس الاحتياطى، مثل القانون رقم 94 لسنة 2015 بشأن مكافحة الإرهاب، أو قانون الطوارئ رقم 162 لسنة 1958.
فى 10 أعوام.. أسباب توحش الحبس الاحتياطي
بعد نجاح ثورة 2013 فى طرد الإخوان من الحكم، وتعديل الدستور عام 2014، تطور ملف الحبس الاحتياطى فى 10 أعوام وتحول إلى وحش كاسر، وتوسع بشدة بما يخالف الدستور، وأصبح الأمر يتطلب تدخلًا تشريعيا حتى تتماشى مع الغرض من الحبس الاحتياطى وهو مصلحة التحقيق، لاسيما أن هناك ضوابط منصوصا عليها لحبس المتهم وفق هذا المنظور، إذ يجب أن تكون الجريمة فى حالة تلبس.
كما يجب تنفيذ الحكم فيها فور صدوره بجانب الخشية من هروب المتهم. أو خشية الإضرار بمصلحة التحقيق سواء بالتأثير على المجنى عليه أو الشهود، أو بالعبث فى الأدلة أو القرائن المادية، أو بإجراء اتفاقات مع باقى الجناة لتغيير الحقيقة أو طمس معالمها، أو الخوف من الإخلال الجسيم بالأمن والنظام العام الذى قد يترتب على جسامة الجريمة.
لكن فقهاء القانون لهم رأى آخر، إذ يؤكدون أن هناك مخالفة للمادة 54 من الدستور الحالى التى تنص على: “الحرية الشخصية حق طبيعى، وهى مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأى قيد إلا بأمر قضائى مسبب يستلزمه التحقيق”.
وحسب الدراسة كانت هذه المادة فى دستور 1971 تتيح الحبس بأمر قضائى لما تستلزمه مصلحة التحقيق وصيانة أمن المجتمع، لكن عبارة “صيانة أمن المجتمع” تم حذفها من النص الدستورى الحالى، وبالتالى يجب للقانون أن يتقيد بحكم المادة 54؟
ووفقًا لأساتذة القانون لا يجوز التوسع فى الهدف من الحبس الاحتياطى واعتباره تدبيرًا احترازيًّا، لأن ذلك يجعله فى مصاف العقوبات، الأمر الذى يتعارض مع طبيعته المؤقتة أما مراعاة الشعور العام للناس بسبب جسامة الجريمة فلا يجوز مواجهته بحبس الأبرياء، والخوف من هروب المتهم عند الحكم عليه لا يجوز أن يكون سندًا لحبسه وإلا كان ذلك مصادرة على المطلوب، وهو التأكد من إدانته، ما يتعارض تمامًا مع أصل البراءة.
ويصطدم ما يقوله أساتذة القانون بالمادة 134 إجراءات جنائية التى تجيز لقاضى التحقيق، بعد استجواب المتهم أو فى حالة هربه، إذا كانت الواقعة جناية أو جنحة ويعاقب عليها بالحبس لمدة لا تقل عن سنة، والدلائل عليها كافية، أن يصدر أمرًا بحبس المتهم احتياطيًّا؟
وتعتمد نص المادة على مصطلح «دلائل» وهو وصف واسع النطاق وغير كاف للإدانة، حيث يمكن للنيابة العامة اعتبار التحريات مثلًا من ضمن الدلائل، وهو ما نشهده فى أوامر الحبس الاحتياطى المتكررة خلال الآونة الأخيرة.
بينما يجب أن يستند الحبس الاحتياطى إلى «دليل» حسب توجهات الأحكام الصادرة عن محاكم الجنايات ومحكمة النقض، مثل التقرير الفنى، أو الاعتراف، أو شهادة الشهود، وهو ما يستتبع تدخلا تشريعيا لعدم صدور قرار بالحبس الاحتياطى إلا بناء على وجود دليل، إذ إن الأمر بالحبس الاحتياطى يعد سالبًا لحرية المتهم مثل العقوبة.
بينما يتجه الفقه إلى أنه إذا تبينت محكمة الموضوع عدم توافر الدلائل الكافية على الاتهام لتبرير الأمر بحبس المتهم احتياطيًّا كان هذا الأمر باطلًا ويتعين بطلان ما يترتب عليه من إجراءات واستبعاد الدليل المستمد منها (8)، وحيث إن الأمر بالحبس الاحتياطى فى غاية الخطورة لذلك يجب أن تكون هناك أدلة واضحة.
الناسخ والمنسوخ.. الحبس الاحتياطى الأصلى فى التشريعات الغربية
كما أسلفنا نسخت مصر الحبس الاحتياطى من التشريع الفرنسى المعمول به فى البلاد طوال تاريخها الحديث، لكن الناسخ غير المنسوخ، فغاية الحبس الاحتياطى فى التشريع الفرنسى ومبرراته هو “الحبس المؤقت” بدلًا من “الحبس الوقائي” طبقًا للمادة 144/1، 2 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسى.
ويهدف الحبس الموقت إلى المحافظة على الأدلة أو الإمارات المادية أو لمنع الضغط على الشهود أو التدبير السيئ مع الشركاء، أو المحافظة على النظام العام من الإضراب الذى أحدثته الجريمة، أو لحماية المتهم أو لوضع حد للجريمة أو منع العودة إلى ارتكابها، أو لضمان بقاء المتهم تحت تصرف القضاء”.
ورغم توسع المشرع الفرنسى فى مبررات الحبس الاحتياطى لا سيما فيما يخرج عن مصلحة التحقيق، فإنه جعل بدائل الحبس الاحتياطى (الرقابة القضائية) هى الأصل والحبس الاحتياطى بديلًا، حيث نصت المادة 144 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسى على “لا يؤمر بالحبس الاحتياطى أو بإطالة مدته إلا إذا تبين من عناصر وظروف واضحة أنه يعد الوسيلة الوحيدة لتحقيق هدف أو أكثر من أهداف الحبس الاحتياطى، وأن هذه الأهداف لا يمكن تحقيقها فى حالة الخضوع للرقابة القضائية والالتزام بالبقاء فى المسكن مع الخضوع للرقابة الإلكترونية”.
فى مصر بموجب المادة 199 المستبدلة بالقانون رقم 353 لسنة 1952 أصبح للنيابة العامة سلطة إصدار الأمر بالحبس الاحتياطى، حيث تنص المادة 201 من قانون الإجراءات الجنائية على: “يصدر الأمر بالحبس من النيابة العامة من وكيل نيابة على الأقل وذلك لمدة أقصاها أربعة أيام تالية للقبض على المتهم أو تسليمه للنيابة العامة إذا كان مقبوضًا عليه من قبل.
على أن تحسب الأربعة أيام من تاريخ القبض على المتهم إذا صدر بناء على أمر من النيابة العامة، أما فى حالة القبض على المتهم بمعرفة مأمور الضبط القضائى فإن مدة الحبس الاحتياطى تبدأ من تاريخ تسليمه أو عرضه على النيابة العامة.
وإذا ارتأت النيابة العامة مدَّ الحبس الاحتياطى وجب عليها بموجب المادة 202 إجراءات جنائية قبل انقضاء مدة الأربعة أيام أن تعرض المتهم ومبررات مد حبسه على القاضى الجزئى على أن يسمع أقوال المتهم ويصدر أمره إما بالإفراج عن المتهم وإما بمد الحبس الاحتياطى لمدة أو مدد متعاقبة لا تجاوز كل منها خمسة عشر يومًا، وبحيث لا تزيد مدة الحبس الاحتياطى فى مجموعها على خمسة وأربعين يومًا، على أن تحسب منها مدة الأربعة أيام الصادرة عن النيابة العامة.
وإذا ما أرادت النيابة العامة مد الحبس الاحتياطى زيادة على ما هو مقرر للقاضى الجزئى وجب عليها قبل انقضاء مدة الخمسة وأربعين يومًا عرض المتهم على محكمة الجنح المستأنفة منعقدة فى غرفة المشورة على أن تصدر أمرها بعد سماع النيابة العامة والمتهم ودفاعه، إما بالإفراج عن المتهم وإما مد أمر حبسه لمدة خمسة وأربعين يومًا فى كل مرة، عملًا بنص الفقرة الأولى من المادة 143 إجراءات جنائية.
وإذا لم ينتهِ التحقيق وكانت التهمة المنسوبة إلى المتهم جناية فلا يجوز أن تزيد مدة الحبس الاحتياطى الصادرة عن محكمة الجنح المستأنفة على خمسة شهور إلا بعد الحصول قبل انقضائها على أمر من محكمة الجنايات منعقدة فى غرفة المشورة بمد الحبس مدة لا تزيد على خمسة وأربعين يومًا قابلة للتجديد لمدة أو مدد أخرى مماثلة فى حدود الحد الأقصى للحبس الاحتياطى عملًا بنص الفقرتين 3، 4 من المادة 143 من قانون الإجراءات الجنائية.
كما تتمتع النيابة العامة بسلطات استثنائية فى مد الحبس الاحتياطى وفق قانون الإجراءات الجنائية: حيث تنص المادة 206 مكررًا على: “يكون لأعضاء النيابة العامة من درجة رئيس نيابة على الأقل –بالإضافة إلى الاختصاصات المقررة للنيابة العامة– سلطات قاضى التحقيق فى تحقيق الجنايات المنصوص عليها فى الأبواب: الأول والثانى والثانى مكررًا والرابع من الكتاب الثانى من قانون العقوبات.
كما ينص قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015 فى المادة 43 على أن تكون للنيابة العامة أو سلطة التحقيق المختصة، بحسب الأحوال، أثناء التحقيق فى جريمة إرهابية، بالإضافة إلى الاختصاصات المقررة لها قانونيًّا، السلطات المقررة لقاضى التحقيق، وتلك المقررة لمحكمة الجنح المستأنفة منعقدة فى غرفة المشورة، وذلك وفقًا لذات الاختصاصات والقيود والمدد المنصوص عليها بالمادة (143) من قانون الإجراءات الجنائية.