ليلة مقتل الرئيس
لم يكن الحادث عاديا، ولم تكن أيضا متابعته من العواصم الكبرى متابعة عادية، فجأة تتواتر الأخبار حول اختفاء طائرة الرئيس الإيرانى إبراهيم رئيسي، تتسابق وكالات الأنباء العالمية للحصول على خبر أو ادعاء الحصول على خبر، يقطع الرئيس الأمريكى إجازته، عواصم العالم تتابع بقلق شديد.
حالة من الارتباك تسيطر على الموقف داخل إيران وحولها وحول حولها، خبراء يحللون وآخرون يتوقعون، والمرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية يطل على الجماهير بخطاب هادئ يطمئن الشعب حول الدولة واستقرارها وديمومة العمل الخدمى والجماهيرى كما هو معتاد، حتى لو غاب الرئيس عن المشهد.
تتضارب الأنباء لأكثر من اثنتى عشرة ساعة حتى تصل فرق الإنقاذ المؤلفة من عدة دول شاركت، أو ادعت المشاركة فى الكشف عن موقع الحادث، منطقة غابات وسط مناخ تختلط فيه السحب برطوبة تتعدى الثمانين بالمائة وجبال شاهقة وعواصف ورعد وبرق.. أخيرا وجدوا الرئيس ورفاقه وقد قضوا جميعا.
ليلة رحيل الرئيس
متابعة الحدث تأخذك إلى آفاق الدول الكبرى.. نعم الدول الكبرى التى تمتلك مؤسسات فاعلة وقادرة على الوفاء بالتزاماتها، مؤسسة صيانة الدستور تصعد على السطح، مركز القادة يظهر هو أيضا، المؤسسة الدينية والبرلمان والقضاء وعدد لا يحصى من مؤسسات إيرانية تعمل على الأرض.
انسيابية فى الأداء والتحول إلى ما بعد غياب الرئيس.. خصم الرئيس الراحل ليس فى المعتقل وإنما يحيا بين الناس ويتحدث عن ذكرياته مع الرئيس الراحل ويذكر ويتذكر من مناقبه الكثير، رؤساء سابقون على قيد الحياة ولم يعتقلوا أو ينكل بهم أو يتم تغييبهم عن المشهد.
إبراهيم رئيسى هو الرئيس الثامن فى عمر التجربة الإيرانية منذ الثورة التى غيرت وجه الحياة فى العام 1979م، جاء رؤساء وذهب آخرون ولاتزال، والرئيس يحمل سيرة ذاتية تحمل من المفاخر العلمية والمواقع التى تولاها، يجعلك تقف أمامه كثيرا.
نائب الرئيس محمد مخبر حاصل على الدكتوراه فى الإدارة ومارس العمل المصرفى لعشر سنوات وصاحب تجارب عديدة، كل من ظهروا على السطح خلال أربع وعشرين ساعة من حملة الدكتوراه وأصحاب المواقع المتعددة.. أجيال تسلم أجيالا وتجربة ثرية تحمل فى مضامينها ديناميكية هائلة.
لجنة ثلاثية لإدارة شئون البلاد، ونائب رئيس يقوم بمهمته، ومرشد أعلى يدير الموقف بحكمة، ومؤسسات دستورية تعلى قيمة وقدر القانون، ومؤسسة عسكرية لها دور بارز فى الاضطلاع بمهام حماية الأمن القومي، وإعلام يتخبط فى بداية الأمر ثم يطرح كل المعلومات المتاحة لديه إلى كل عواصم العالم.
اختلف أو اتفق مع ايران ودورها فى المنطقة، ولكن لابد وأن تتوقف عند حدود إلهام التجربة ووعيها بمحيطها وطموحها فى تحقيق مصالح شعبها وسط محيط يحمل من مضامين الجمود والديكتاتوريات ما يجعلها فى أضعف حالاتها.. شئنا أم أبينا.. إيران دولة كبرى.
متابعة الحراك السياسى والعملياتى أثناء الحادث وبعده توحى بأنك أمام نموذج لدولة لديها من المؤسسات ما يجعلها قادرة على إدارة شئونها وشئون محيطها والسعى حثيثا لنيل نصيبها وسط عالم يتشكل بفعل الصراع الدولى الجديد والمتجدد والطامع فى ثروات المنطقة برمتها.
دولة تعاقب على حكمها ثمانية رؤساء والتاسع فى الطريق خلال خمس وأربعين سنة وفق نموذج انتخابى يتسم بالصراع الشرعى على صندوق الاقتراع، ومعارك شرسة بين الإصلاحيين والأصوليين، وشارع يموج بأحزاب سياسية تلتحم بالشارع وتتسابق فى معارك البرلمان، والرئاسة لا يهزها غياب الرئيس أو غيره.
الجيوش وحدها لا تصنع بلادا قوية، إنما القوة تصنعها شعوب تمارس المشاركة حقا وحقيقة، ومؤسسات تضطلع بأدوارها دون تدخل أو تداخل، وشعب واع بمسئولياته الوطنية، وماكينة تفريخ للكوادر لا تحكمها المصالح ولا تتدخل فيها وتتداخل الأجهزة، ويكون الصندوق فيها حكما عدلا يرضى به الجميع.