الحكيم يحسم النزاع بيننا وجماعة تكوين
بالفكر وحده ترد جماعة تكوين وما تطل به علينا بين حين وآخر من بالونات اختبار أين تقف عقولنا وأفكارنا وثوابت إيماننا وعقائدنا.. ذهب عصر المستشرقين وأتى عصر المفلسين الذين يتاجرون في الكلمة بأي ثمن ويقتلون الحقيقة.. يدعون أن قضيتهم التنوير وغربلة التراث الديني من خطاياه التاريخية نحو تجديد الخطاب الديني، وهم يغلقون كل خطاباته التراثية من كل منابعها التاريخية.. فمن أي منبع جاءوا بخطابهم التجديدي المزعوم.
والحقيقة أن المنبع معلوم منذ القدم، يطلعنا على بعض ينابيعه أديبنا الكبير الراحل توفيق الحكيم في مقدمته النقدية الرائعة لمسرحيته الخالدة أوديب.. وأترك المجال للحكيم ينير بجد عقولنا من أين أتى هؤلاء بالغام وسموم (تكوين وأخواتها) الأمس واليوم وغدا.
يقول الحكيم فاصلا ما بين أهل البحر في الشمال والجنوب بحثا عن الحقيقة.. فاصلا ما بين الدينيين والعلمانيين.. إن القضية المطروحة الآن للفصل ما بين الدين والعلم أو للمفارقة ما بين أهل الدين وأهل الدنيا أو ما بين فكر الوجودي وإيمان الغيبيات قديمة جدا، قدم الوجود الإنساني ذاته، وإن بلورتها الفلسفة والآداب الإغريقية بوضوح ثم ترجمها أدباء وفلاسفة عصر التنوير الأوروبي قبل نحو أربعة قرون..
وعليها قامت نهضتهم العلمية أو المادية وركيزتها الأساسية الكفر بالغيبيات، فلا وجود إلا لما هو محسوس.. يقول الحكيم أيضا حاسما القضية: ما من شيء أقوى من الميراث.. إذا كان للخلود يد فإن الميراث يده التي ينقل بها الكائنات من زمان إلى زمان.. ما طبائع الأفراد وخصائص الشعوب ومقومات الأمم إلا ميراث صفات وسمات تنحدر من جيل إلى جيل..
ويقول أيضا وأن ما يسمونه العراقة في شعب، ليس إلا فضائله المتوارثة من أعماق الحقب وأن الأصالة في الأشياء والأحياء هى ذلك الاحتفاظ المتصل بالمزايا الموروثة، كابرا عن كابر وحلقة بعد حلقة.. هكذا يقال في شعب أو رجل أو جواد!
وينبئنا الحكيم.. ما من مفكر اليوم في العالم الغربي يؤمن حقا بوجود إله آخر غير الإنسان نفسه، ويضرب مثال على ذلك بفولتير باعتباره الممهد للعملية الفنية الحديثة، والنموذج الأول للمفكر العربي والمفكر الأوروبي في وضعه الحالي، ما كان في قلبه إيمان بغير عقله، ويرى أن عقيدة الأوروبى اليوم.. أن لا شيئ فى الكون غير الإنسان ولا قيمة في الكون غير الإنسان كما قال أندرية جيد..
وأن الإنسان يكون نفسه بنفسه كما قال الفلاسفة بالانش ونيتشه وغيرهم كثر، يؤمنون أنه لا يوجد شيء فوق الإنسان، ويعلنون جميعا أنه قد حل الإنسان الأعلى اليوم محل الإله، أن الإله قد مات.. ويوضح الحكيم أنه على ذلك تصدعت العقيدة الدينية عند الأوروبي في النفوس فما عاد أحد يؤمن بشيء غير الإنسان..
ويقول الحكيم وهو أكثر من جال وصال فى التعرف على نتاج الفكر الأوروبى من عهد سوفوكل وأرسطو وأفلاطون مرورا بكل فلاسفة وأدباء الغرب في عصورها القديمة قبل الحديثة مؤكدا أن الحصن الحصين الأخير الذى بقى لنا لتعتصم به في صد ذلك التفكير الغربى هو إيماننا الراسخ بوجود عالمين.. عالم الوجود وعالم الغيبيات وهو جوهر الفلسفة الإسلامية التى أثرت به على أوروبا منذ القرن الثالث عشر..
وينصح الحكيم كل مفتون بالفكر الأوروبى فيقول: إن اتصالنا بالحضارة الأوروبية كفيل أن يفيدنا في اجتلاب قوالب الأدب والفلسفة وتجديد الثياب، ولكنه غير قدير على اقتلاع الروح ولا محو الطابع (الدين والإيمان بالغيب) وصولا إلى الايمان بالله والايمان ببشرية الإنسان، وأن عظمة الإنسان في أنه بشر له ضعفه ونقصه وعجزه وأخطاؤه..
بشر يوحى إليه من فوق، وهكذا هو أصل تكوين الإنسان يا أحباب التجديد والتنوير وغربلة تراثنا الدينى بحثا عن الحقائق، وليس تلفيق الفكر والأحداث التاريخية على هوى صاحب الدولار والإسترلينى لنقبل دعوة تكوين، ونقيم حفلات دينية صاخبة بالنشوة فياضة بالمرح يرقص الناس فيها ويغنون حول إله الخمر باكوس عند الإغريق، ونحن متنكرين فى جلود الماعز وأوراق الشجر وفي أيدينا زجاجات تسلا وأخواتها ونهتف معكم يسقط التراث يسقط كل ما هو غيبى لا وجود لغير الإنسان.. أجرنا يا الله.