إلى أعضاء البرلمان..
غول القطاع الخاص سيلتهم المرضى الفقراء
بداية في هذا المقال نحاول توصيف حالة توجه الحكومة المصرية تجاه سياسة إدارة الدولة وتحمل المسؤوليات تجاه الشعب من كافة النواحي الخدمية، خاصة قطاع الصحة والتعليم وخدمات الطاقة الخ، ونلاحظ أن الدولة تتخذ سياسة تخصيص مرافق الدولة ومنشآتها الخدمية والاقتصادية؛ بمعنى أن الدولة تتجه إلى التخلي عن دورها والتزامها تجاه المواطنين البسطاء والغلابة ليحل محلها المستثمرون..
وبالتالي تصبح العملية كلها عملية اقتصادية بحتة، يتحكم فيها نظام المكسب والخسارة دون أن يكون لرعاية البسطاء والتخفيف عنهم أي دور مع المستثمر، والدولة ستتفرغ فقط لجمع الضرائب والأموال من المستثمرين ولا علاقة لها بعلاج أو تعليم أو تقديم أي خدمات للمواطنين الفقراء..
وبهذا تتجه الدولة إلى الرأسمالية الداخلية المتوحشة التي تترك المواطن ليواجه قدره ومصيره بما يملكه من دخل بسيط جدا أمام إرادة المستثمر الربح، فالمستثمر الذي سيؤجر مستشفى -مثلا- لن ينظر للشؤون الاجتماعية وفقر المواطن، لكنه سينظر لحسابات المكسب فقط حتى يستطيع أن يؤدي الإيجار المطلوب منه..
ولن تتدخل الحكومة في ذلك الشأن، وإنما ستترك المواطن الفقير يتعامل مع المستثمر كيفما شاء المستثمر، ولن تستطيع أن تتدخل لأنه من شروط التأجير أن يتصرف المؤجر كيفما شاء.
الحكومة تنتهج ذلك الاتجاه في كافة المجالات، فهي تعرض بيع محطات الكهرباء تلك التي استدانت من بنوك ألمانية لإنجازها، وصارت المحطات تربح بالفعل، لكن تقرر الحكومة بيعها حتى لا يكون هناك أي التزام تجاه المواطنين..
تحسين جودة الخدمات الصحية
كذا الشأن في التفكير في تأجير أو بيع المدارس الحكومية، ونرى ذلك أخيرا جليا في قطاع وزارة الصحة، حيث وافقت لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب على مشروع قانون مقدم من الحكومة في شأن تنظيم منح التزام المرافق العامة لإنشاء وإدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية.
وأشارت المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون إلى أنه في ضوء ما نص عليه الدستور في المادة (18) من تشجيع الدولة مشاركة القطاعين الخاص والأهلي في خدمات الرعاية الصحية وفقا للقانون، وبناء على التوجيه الرئاسي بالعمل على تنفيذ ما نص عليه الدستور وبما يؤدى إلى تحسين جودة الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافي العادل، تم دراسة الآلية القانونية الملائمة التي تضمن كفالة ذلك مع حفظ الحقوق العامة بما يتفق مع أحكام الدستور.
وأوضحت أنه بناء على أن الدستور أجاز في المادة (32) منح التزام المرافق العامة لمدة لا تتجاوز خمسة عشر عامًا بناء على قانون، فقد برزت الحاجة إلى استصدار قانون ينظم آلية منح التزام المرافق العامة لإنشاء وإدارة وتشغيل المنشآت الصحية، أو إدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية القائمة بما يسمح للقطاعين الخاص والأهلى تولى ما تقدم.
إذا الحكومة ستعرض كل المنشآت الصحية من مستشفيات حكومية ووحدات صحية وأي وحدة تقدم علاج للمواطنين للإيجار لمدة قد تصل إلى 15 عاما، كما أن مشروع القانون يذكر أنه يجوز للمؤجر أن يأتي بطاقم من الأطباء والممرضين والمعاونين الخ من الأجانب، وتُجمِّل الحكومة المشروع بأنها ستتدخل لتحديد سعر الخدمة والإشراف.. وذلك طبعا تجميل وليس حقيقة.
فالمؤجر الذي سيدفع الكثير في نظير تأجير مستشفى، مثل مستشفى الحسين الجامعي مثلا، لن ينتظر أن تسعر له الحكومة مقابل ما يقدمه، لأنه سيحدد هو سعر الخدمة بما يفي بربحه وليس مراعاة أحوال الفقراء، فهذا ليس من شأنه، وإنما كان من شأن الحكومة التي تخلت عنه وتركته فريسة للمؤجر..
ونحن هنا نخاطب مجلس الشعب قبل أن يوافق نهائيا على ذلك القانون، ونطلب منه أن يجد إجابة صريحة على حالة إنسان فقير لا يجد قوت يومه وتعرض لمرض مفاجئ، وذهب ليتلقى العلاج في مستشفى مؤجر، هل سيقبله ذلك المستشفى دون أن يسدد الفقير ثمن الخدمة؟
بالطبع لن يقبله، وسيطلب منه أن يتجه للحكومة حتى تعالجه هي، وطبعا الحكومة تخلت عنه، فهل يضمن أعضاء مجلس الشعب علاج ذلك الفقير دون مقابل في المستشفى المؤجر؟ إذا كانت الإجابة بأنهم لا يضمنون ذلك فعليهم مسئولية أمام الله، ففي رقابهم موت الفقير لعدم تلقيه العلاج في المستشفى المؤجر، وسوف يُسألون أمام الله عن موافقتهم على ذلك القانون الذي يبيح للدولة التخلي عن دورها..
والغريب أن الدولة لم تكن تعالج الفقير من مالها الخاص وإنما من حصيلة أموال الضرائب وموارد الدولة الخ، لكن نتيجة السياسات الخاطئة استدانت الدولة لإقامة عاصمة إدارية وتدبيش طرق وقطار كهربائي الخ، فلم تعد قادرة على توفير موازنة للفقير، فتريد التخلص منه بتركه للمستثمرين وتربح هي منهم.
وتضرب الحكومة بمشروعها ذلك عرض الحائط بالدستور المصري حيث تنص المادة 18 لعام 2014، على أن لكل مواطن الحق في الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة وفقا لمعايير الجودة. وتكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التي تقدم خدماتها للشعب ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافي العادل.
كما تلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3 % من الناتج القومي الإجمالي تتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية. كما يثير مشروع القانون أيضا مخاوف فيما يتعلق بالكوادر الطبية في مصر، حيث ينص على إمكانية استقدام أطباء وأطقم طبية غير مصريين في المنشآت التي سيتولى المستثمرين والقطاع الخاص إدارتها، مما قد يزيد من هجرة الأطباء إلى خارج البلاد، كما سيفتح الباب أمام الأشخاص ذوي المهارات المنخفضة من الدول الأخرى للعمل بأجور زهيدة.