الصيام والحرية
يأتى رمضان كل عام في توقيت محدد ليزيح بعض ما ران على قلوبنا من صدأ المادية المقيتة التى احتلت وجدان البشر وعقولهم، ومن ثم تمكنت من نفوسهم فأحالتها لمسخ لم يرده الله للبشر منذ بدء الخليقة، فالكائن الذى أمر الله ملائكته بالسجود له، ليكون مستخلفا في الأرض التى تعج بمقدرات الحياة، والذى جعله قابلا للتعلم والذى علمه بنفسه كل الأسماء كما جاء في سورة البقرة، يأتى عليه كل رمضان ليعلمه معنى الإختيار الحر، أى معنى الحرية.. كيف ذلك؟
الصوم هو العبادة التى لا يصلح فيها نفاق أو رياء، فأنت يمكنك أن تتصدق أمام الناس ليصفوك بالجود والكرم، ويمكنك أن ترتاد المساجد ليقال عنك أنك من أهل الله نفاقا أو رياء والعياذ بالله، ربما تخشى نظرة المجتمع وتقع بين القدح والمدح فأتى بالعبادة دون إخلاص أو صدق.. ولا تنس أن المنافقين كانوا يصلون مع رسول الله فى المدينة المنورة وأسسوأ مسجدا ضرارا وتفريقا للصفوف.
إذن حرية الإنسان هنا ربما تكون مقيدة وخاضعة للأبعاد الإجتماعية، لكن فى الصوم أنت تختار أن تنزع نفسك من كامل رغباتها وشهواتها وقيودها الأرضية الحلال المباحة تقربا لله، وإخلاص لجلال وجهه سبحانه وسعيا لرضاه، فمن ذا الذى يحرم نفسه من الطعام والشراب، والمتع الحرية بل والحديث الذى به مسحة من نميمة أو إغتياب نفاقا!
يمكنه إتيان كل ذلك سرا لو أراد، وهنا ينتهى صيامه، لذا فتك المشقة العظيمة تدعمها حرية الإنسان الذاتية فى التقرب لخالقه وخالق كل شيىء.
كل تلك الأفكار تجول في خواطرى وأنا صائم وكأننى أسلمت من جديد، فمع كل آية من آيات القرآن الكريم، تجد نفسك فى حالة تفكر وتدبر للمعانى الجليلة التى تنبثق متجددة مع كل قراءة لكتاب الله، فبداية من الثقة المطلقة في منطق القرآن الكريم، والتى لا تعرف ريبا أو شكا في قوله (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) ونهاية بقوله تعالى (مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَٰهِ النَّاسِ) فى ختام المصحف، يقرأ الإنسان نفسه ويجد ذاته شفافة دون غطاء أمام نفسه، أمامه منهاج للصلاح وهو حر فى اختياره وأمامه سبل الضلال ولا يجبره أحد على شيء..
هو مخير لتزكية نفسه أو لإفسادها، والصوم هو أعلى مراتب تزكية النفس، لذا كان من رحمة الله للعباد أن الصوم لم يفرض على المسلمين إلا بعد استقرار العقيدة ورسوخها فى نفوسهم في العام الخامس عشر من بعثة الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه.. الصوم يحتاج لأن يعرفه الناس حق المعرفة ويعظمون حريتهم التى يعلمهم الله معناها كل عام مع قدوم رمضان.
Fotuheng@gmail.com