ساخرون، حكاوى زمان.. حكايات صبى السباك وصبى الحلاق مع يحيى حقى
فى باب قنديليات بمجلة الهلال عام 1982 كتب الأديب يحيى حقى -رحل فى ديسمبر عام 1992 - مقالا عن معاناة العاملين فى المهن المختلفة قال فيه: عرفتهم لأكثر من نصف قرن مضى، وأنا فى مثل عمرهم، وكان من المحتمل أن نقع في الخطر ونصبح واحدا من بينهم، لولا المصادفة وحسن الحظ والنجاة من خطر جسيم أشد زلزلة للنفس من الوقوع فيه.
هؤلاء العاملون هم طبقة أرباب المهن والحرف الصغيرة يعملون أغلب الوقت فى دكاكين مكشوفة ويلبسون جلاليب ويقاس طولهم بنصف متر أو أطول قليلا، فمثلا صبى المطبعة رأيته يعمل وأمامه منضدة فوقها كوم عالٍ من أفرخ الورق متر فى متر، وفى يده شبه مسطرة من خشب أو حديد يقسم الأفرخ بخفة شديدة إلى نصفين، ثم كل نصف إلى ربعين، وهكذا إلى أن تتم الملزمة.
لم أر فى حياتى حركة سريعة مثل حركته كأنه محرك انفلت عياره، والصبى فى الأغلب يتيم.. صبى السباك يسير وراء المعلم يحمل صندوقا ممتلئ بالعدد والآلات، ويجلس وراء المعلم فى بيت الزبون يلبى له كل طلب، وينهال المعلم على الصبى بالسب والشتم، وما عليه إلا أن يلتزم الصمت.
صبى الحلاق هو الذى يمسح البلاط فور فتح الدكان ويكنس الشعر الساقط من رءوس الزبائن، يغسل وعاء من المطاط فيه رغاوى من الصابون ويقف كالصنم وراء الزبون وفى يده منشة من القش الرفيع لينش الذباب، وما أدراك ما الذباب
. صبى البسكلتاتي متسخة يداه، عليه تصليح الجنزير، يحشو كاوتش العجلة كأنه يحشو الباذنجان، يعمل بيديه ورجليه، لكنه أسعد الصبية فهو مسموح له بالمجان أن يركب الدراجة بدعوى تجريبها.
رأيت بعينى كيف كان ينهال على رءوسهم جميعا بالسب والشتم والإهانة، وربما الضرب أيضًا أو جذب الأذن، وأجارك الله لحظة دفع الأجر من نقد معدنى، تدس القطعة فى يد الصبى بقوة، ليس هذا أجرا، بل إحسان عسى أن تقدره..
وكانت حلقة مفرغة حين يصبح هذا الصبى معلما، فهو يعامل صبيه ربما بقسوة أشد، بل هو انتقام مؤجل الدفع بحجة أنها لصالح الصبى. لا تزال نظرتى اليوم مشدودة، ولكن إلى جنس آخر هم جيل حمير عربات القمامة، فإنى لا أعرف صورة للبؤس والشقاء والضياع والمذلة مثلهم.