العدوان السداسى على أطفال غزة
{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: ٤٥]، قالها المولى عز وجل في كفار قريش أيام ما قبل غزوة بدر، وجاءت بدر وهزم الجمع وولوا الدبر، وانتصرت كلمة الحق على كل أباطيل الكفر والشرك، وعلم المؤمنون أن وعد الله حق، وأن انتصار النور على الظلام واحدة من سنن الحياة.
«ما أشبه الليلة بالبارحة» على جريان الأمور بوتيرة واحدة يقال هذا المثل، فمنذ 67 عاما بالتمام والكمال كانت ذات الأحداث تجرى في منطقتنا، ففى نهايات أكتوبر من العام 1956م كانت قوى الشر العالمية في ذلك الوقت قد جاءت إلى ديارنا تطلب منا الاستسلام، فلم يكن إلا أن خرجت من أحقر أبواب التاريخ وإلى الأبد.
فى العام 1956م كانت مصر تشق طريقها نحو الاستقلال الكامل، محاولة التعاطى مع الغرب والشرق دون موقف عدائى رغم سنوات الاحتلال الإنجليزى، فلم يكن من تلك القوى وعلى رأسها بريطانيا العظمى إلا أن حاولت العودة من باب الاستغلال والاستعمار والاحتلال، فكان خروج مصر من معادلتهم الاستسلامية بإعلان تأميم قناة السويس.
فى الكيان المحتل أسموها قادش، وقيل عنها فى كتب التاريخ حملة سيناء وفضل بعض المؤرخين إطلاق حرب السويس عليها، بدأ الغرب مستندا إلى تاريخ طويل من العجرفة بتضييق الخناق على نظام عبد الناصر فيما أسموه ساعتها خطة أوميجا.
وكانت أوميجا هذه واحدة من ثمار الأفكار الشريرة التى هدفت إلى فرض عقوبات عسكرية على مصر ومد الكيان الصهيونى بكل ما أراد حينها من عتاد وسلاح، وأفرزت خطتهم الشيطانية التي عرفت حينها بـ بروتوكول سيفرز بوضع خطة عسكرية لاحتلال مصر مرة أخرى بحجة حماية الملاحة فى قناة السويس.
واجتمعوا بليل، وظنوا أن الدنيا قد دانت لهم، وبدأوا القصف الوحشى على مدن القناة، وحطت قوات صهيونية على القناة، وطال القصف مدن القناة والإسكندرية، وظن الواهمون أنهم عادوا إلى مصر احتلالا يمتد لعشرات السنين كما كان، تدخل السوفييت والأمريكان ضد الرغبة الإنجليزية الفرنسية الصهيونية، فخرج الجميع من أرضها الطاهرة تحت وقع مقاومة شعبية باسلة أطاحت بقوى الشر الاستعمارية خارج صفحات التاريخ.
في التاسع عشر من ديسمبر من نفس العام أُنزل العلم البريطانى وإلى الأبد من على مبنى هيئة قناة السويس، ومنذ هذا الحين وقد خرجت بريطانيا من التاريخ، وتحول العنوان من الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس إلى دولة مسحوقة مهزومة تحت أقدام المقاومة الشعبية في بورسعيد ومدن القناة.
ولم تعد فرنسا هى فرنسا، وظلت منذ هذا التاريخ تراودها أحلام يقظة بأنها من الممكن أن تعود، فلم تعد، وخرج الكيان الصهيونى من سيناء بانكسار المهزوم، وانتصرت مصر بعزيمة مقاومتها الشعبية وإصرار العرب حينها على الوقوف معها بدءا من قصف أنابيب البترول في سوريا وحتى المواقف الدبلوماسية العظيمة حينها.
عواصم الضباب الستة
والآن تعزف غزة نفس اللحن الوطنى المقاوم بأدوات بدائية من الإرادة الإنسانية، فلا الإنجليز سلحوا حماس ولا الفرنسيون أرادوا لها الانتصار، ولا الأمريكان تركوها ترسم بأنامل أبنائها خريطة تحرر آخر الدول التى لا تزال وحيدة تعانى احتلالًا عنصريا غاشما.
في ساعات الليل الحالك يجهز مدرج الطائرات لواحدة قادمة من بريطانيا التى كانت عظمى بمفهوم القتل والاحتلال والاستعمار، فالسيد ريشى سوناك ذو البشرة السمراء المتنكر لتاريخ جذوره الهندية التى عانت هى الأخرى من الاحتلال الإنجليزى الغاشم لعقود، جاء إلى الكيان المحتل على طائرة عسكرية محملا بهدايا من نوع خاص..
حمل على متن طائرته أنواعا فتاكة من الأسلحة، أسلحة تختار الأطفال أهدافا والنساء غاية، أسلحة تحرق الأرض بمن عليها، أسلحة يمتد تاريخ تطويرها منذ أن كانت بلاده التى انتمى إليها بحكم المولد ذات تاريخ عريق في القتل الوحشى.
ومن بعد طائرته يبدو الجزار بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الاحتلال مشغولا بقدوم ضيف عزيز، سويعات قليلة وتحط طائرة إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسى المطارد ضربا بالأحذية والبيض والصفع على الوجه في بلاده، جاء ماكرون حاملا البشرى؛ كل قذائف الفتك الفرنسية في الطريق لتحيط الكيان المحتل بعنايتها حماية من أحجار أطفال غزة التى تهدد المشروع الاستعمارى الوحيد الباقى على ظهر الأرض.
وألمانيا تدعم، وإيطاليا تمنح الاحتلال صكا بالقتل الممنهج، ليصبح العدوان السداسى على أطفال غزة.. الكيان المحتل وأمريكا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا وإيطاليا.. كل هؤلاء اجتمعوا على أطفال غزة، وجاءوا بكل عتاد خشية أن يهرب طفل إلى حطام مدرسة لا تزال بقايا أسوارها عالية.
ويمعن القتلة في القتل ومن خلفهم قوى الدول الست تطارد كل امرأة أرادت أن تجد لوليدها مهربا، تقصف كل مسجد أراد شيخ مسن أن يصلى فيه ركعتين، تنسف كل كنيسة أراد راهب فيها أن يوقد شمعة للحب والإنسانية والتسامح والإخاء، كل مزارع لا يزال يظن أن الأرض طيبة تمنحنا ثمارا.
ويقف رئيس وزراء الكيان المحتل ومن خلفه وزير دفاعه وهو يعلن للعالم كله أنه لن يترك طفلا ولا شيخا ولا امرأة حتى يقضى على حماس، وحماس فكرة مقاومة لا تموت بموت مقاتليها، الفكرة لا تموت أبدا، وإنما تحيا كلما نزف المؤمنون بها دما، وتعيش كلما صعدت أرواح المناضلين إلى سماوات لا نصب فيها ولا تعب ولا احتلال.
ومن السماء التى طالما أمطرت ماء يروى الأرض يختار الطيار المحارب قذيفة أمريكية الصنع يمكنها أن تقتل مائة طفل دفعة واحدة، ومن بعدها يلقى بواحدة من فرنسا بلد العطور والبارود، وهذه بدورها يمكنها قصف مدرسة وروضة من رياض أطفال غزة.
يحتار ذلك المقاتل المرتعب في اختيار قاذفة مدفع دبابته، فالقائمة طويلة فهذه دانة أبدع الصانع الألمانى في صناعتها، يمكنها أن تسوى بالأرض عشرة منازل لأناس عزل في غزة، وتلك قذيفة أنتجتها مطاعم البيتزا الإيطالية تستطيع واحدة منها نسف مسجدين دفعة واحدة، أما كل هذه القذائف فهى من أبهى ما أنتج العم سام في واشنطن.
ما هذا العته والجنون؟! كل ألوان القذائف والصواريخ والمدمرات وحاملات الطائرات والسفن الحربية وصلت إلى أطفال غزة المحاصرة منذ عشرين عاما، ولا تجد لبنا لأطفالها ولا دواء كحة لأبنائها.. كل هؤلاء جاءوا ليعلنوا النصر على مليونى أعزل.. إنه الخروج الأبدى من التاريخ..
على وقع القصف يكتب المعتدون الستة نهاية كتلك التى مسحت من التاريخ عنوانا كان يتردد صداه.. الإمبراطورية التى غابت عنها الشمس وظلت منذ حرب السويس تعيش عاصمة للضباب.. إنها عواصم الضباب الستة لا محالة!