رئيس التحرير
عصام كامل

عندما تمنيت أن أكون إرهابيا!

لم يكن الطقس في تلك الليلة على عادته في مثل هذه الأوقات من السنة، برودة توحى بما هو غير مرحب به على أطفال صغار، حاولت أن أغلق نوافذ البيت العتيق، وأطمئن على أغطية أصبحت ضرورية بعد عشاء كان عامرا بما لذ وطاب، طفلى الصغير لا بد من حصاره حتى يتناول عشاءه.


كانت الأضواء خافتة خارج المنزل وداخله وهدوء يلف المكان بعد أن أطفأنا كل ما هو مثير لحفيظة الأطفال الصغار من مذياع أو تلفاز أو غيرهما من ألعاب الفيديو جيم وخلافه، لم تطاوعنى عيناي، فلم تغمض بسهولة وأنا ألح فى استدعاء حالة الاسترخاء جلبا لنوم عميق.

 

Advertisements


حاولت غير مرة دون جدوى، انسحبت من تحت غطاء ناعم إلى صالة البيت، أمسكت بريموت التلفاز وحاولت عبثا أن أجد قناة واحدة لا يغلفها الدم، ألقت بى المقادير إلى قناة الأخبار العالمية، لا يزال القصف على عهد مجرمي الحرب الصهاينة لا يكل القتل ولا يمل الموت.


كانت الكاميرات تتابع سيدة وهى تنبش بأصابعها بين ركام بيوت تهدمت على رءوس الأطفال والشيوخ والنساء، كان جليا أنها تحاول جمع بقايا فلذة كبدها، ومن حولها شباب وأطفال فى عمر الزهور يبحثون، تنتقل الكاميرا سريعا إلى مشهد سماوى يحمل من القذائف والدانات ما حملته آلة الحرب الصهيونية على رءوس أهلنا هناك.


يظهر المذيع متجهما وهو يذيع علينا أن أمين عام الأمم المتحدة يطالب بوقف القصف فورا، ومن بعده تظهر وزيرة داخلية ألمانيا لتزف للمقيمين فى بلادها خبرا بأن من يناصر غزة سيتم ترحيله، ومن بعدها يظهر مسئول فرنسى ليعلن على الملأ أن المظاهرات دعما لغزة ممنوعة بقرار صليبى قادم من عمق تاريخ أوروبا المظلم.


حكام عرب ومسئولون ووزراء يختلط بينهم الحابل بالنابل، فمنهم من قال بحق الكيان المحتل في الدفاع عن نفسه، ومنهم من صرخ في وجه الحروف العربية بأن اخجلوا أيها الحمقى، والقاهرة لا تزال على عهدها تجوب عواصم العالم، عواصم النور وعواصم القتل الممنهج، تدعو لقمة إنسانية تنقذ من تبقى على قيد الحياة.

 

أطفال غزة

على الشاشات تظهر ملامح ووجوه المجرمين، نتنياهو، ووزير دفاعه، وكل متطرفى الدولة الغاصبة، بينما تصر الكاميرات على وضع علامة مائية تخفى وجوه الأطفال المذبوحين، ولم لا وقد سن الغرب قيما تحول دون نشر صور القتلى، بينما تفخر قيمهم بتلميع وجوه المجرمين.


توقفت عجلة الزمن عند تلك المشاهد التى لا مهرب منها، فالقصف بدانات وقنابل أمريكية، فقد أعلن هتلر العصر والمسمى مجازا بايدن أن بوارجه وحاملات طائراته وجنود الصفوة لديه على استعداد للنزول إلى معركة كل ضحاياها من الأطفال والنساء.


ألمانيا حركت سفنا حربية، هكذا قالت المذيعة، وفرنسا أرسلت طائراتها، وإيطاليا على سطح البحر تستعد لمواجهة رضع ونساء وشيوخ بلا مأوى، والقصف الصهيونى لا يزال يدور حول هدفه وغايته من وأد الأولاد والبنات فى عصر لا يقل جهلا عن جاهلية كنا نظن أنها غادرت بلا عودة.


بدا أن الغضب الصاعد من أطراف قدمىَّ قد وصل إلى رأس لم تعد تحتمل ما تراه ماثلا أمامها، إنها حرب الحضارات التى بشرونا بها، فالناس هناك ناس، والناس لدينا حيوانات بشرية، كما قال زعيم العصابة الصهيونى القميء نتنياهو، وردد من بعده رفاقه فى الحضارة الجديدة القادمة من غرب كنا نتصور أنه محا من تاريخه كل جرائمه ضد الإنسانية!


بعصبية المضغوط كآنية فخار قلبت القنوات لعلى أجد إنسانا ينتمى إلى عالم البشر يقول كلاما غير الذى يقال، كلهم تآمروا على أولادنا بليل، وكلهم من مصاصى الدماء، بايدن خصص عشرة مليارات من الدولارات لإمعان القتل، كما خصص بإنسانيته المعروفة مائة مليون دولار لأبناء غزة، لعلها تكفيهم لشراء أكفان.. إنسانية هذا الرجل تتمدد جذورها إلى أعماق بحور الدم الذى يغرق غزة.


تخرج عواصم العالم بأمواج من البشرية التى آلمها أن ترى ما رأت، بينما حكامهم يقولون نحن لا نتعامل مع الشعوب.. نحن نتعامل مع الحكام، وهم بالطبع يقصدون بعض خونة فى البيت العربى يرددون ما يردده قادة الصهيونية الدموية التى أصبحت معلما في ديار العرب الجدد.


بين الحين والحين أعود إلى غرفة النوم أطمئن على أغطية وضعتها بعناية على أطفالى خوفا من «لسعة برد» تأتى بغتة لتصيب ملائكة ناموا فى هدوء، بينما أشقاؤهم هناك ناموا إلى الأبد تحت ركام بيوت قصفها بايدن وماكرون ونتنياهو وشولتس وكل عصابات الغرب.


جاء الصباح عابسا وأشجار الحى تقف حدادا لا تحركها الرياح، ووجوه المارة تعلوها سحابات من خجل العجز الساكن فى القلوب، يتحركون كدُمى بلا أرواح، يسيرون في الشوارع وكأنهم أصنام لا حياة فيها، وأطفالى لا يزالون يمتنعون عن تناول أطيب الطعام وأمهم تلح في ذلك دون جدوى!

 


ممسوك أنا بسلاسل العجز، أرى أهلى يُقتلون وعصبة من الأشرار تمنعنى أن أصرخ، وسؤال يلح على خاطرى حتى أصبح مشروعا مستقبليا: ما الذى يمنعنى أن أكون إرهابيا؟.. نعم، فالرغبة في التعبير عن الكارثة تصنع منى إرهابيا لن يندم إن تحول في يوم من الأيام إلى قنبلة ستحرق أخضرهم ويابسهم.. انتظروا القادم فالأيام حبلى بملايين الإرهابيين!

الجريدة الرسمية