ارفع راسك فوق.. أنت صحفى
أستيقظ صباحا فى مثل هذه الأيام، أتوجه من فورى إلى قاعات دوريات الصحف استدعى نسخا عتيقة من الأخبار والأهرام والمصور وأغوص فى مساحات من نبض السطور التى لم تمت حتى تاريخه، لا تزال أقلام الصحفيين تتراقص على السطور وكأنها لاتزال فى حالة نقش مستمر.
صور اليوم الأول من قفزة العبور النادرة لم تكن ترضى فضول المتابعين الذين لازموا لساعات منذ الأمس المذياع على المقاهى وفى البيوت وعلى النواصي.. عناوين الصحف تنطق بصوت عال كل حروفها، والناس فى الشوارع تتسابق على حجز صحف الصباح التالي.
صور المصورين العسكريين تمنح أجيال المحررين العسكريين فى هذا الوقت مساحات من الوصف لبطولات ربما تتسع صفحات الأيام التالية لبسط تفاصيلها.. المبدع جمال الغيطانى مراسل حربى أخبار اليوم يخط بقلم مداده من دم قصص لأبطال من لحم ودم.
وعلى المذياع يتردد صوت العبقرى حمدى الكنيسى فى برنامجه صوت المعركة لينقل للناس على المصاطب وفى المزارع وأمام آلات المصانع لحظة بلحظة أصوات المدافع وأزيز الطائرات وأصوات المنتصرين هناك على جبهة التحدي.
مكرم جاد الكريم صاحب أخطر صورة فى تاريخ الصحافة المصرية يتنقل حاملا عدساته بين الجنود.. كان جنديا مدفعه من عدسة وقذائفه من لقطات جمدت اللحظة الفارقة فى تاريخ البلاد والعباد، وعمنا صلاح قبضايا يجلس على الرمال المحررة ليبدأ فى وضع أول كتاب عن حرب أكتوبر «الساعة 1405» لتتلقفه المطابع فيصبح كائنا حيا بعد أيام من الحرب يتنقل بين البيوت رسولا من جيل أكتوبر إلى شعب مصر.
عبده مباشر الصحفى الذى انتقل من خانة الكتابة إلى القتال الفعلى متطوعا ضمن المجموعة 39 قتال بعد نكسة يونيه، ليمتزج القلم بالبندقية ويصنعا سطورا من واقع أبهى من الخيال، ثم يصبح واحدا من المقربين من الرئيس الشهيد محمد أنور السادات ويحصل على نوط الشجاعة من الدرجة الأولى.
صفحات من بطولة القلم والصحافة
لاتزال صفحات المصور وكل إصدارات دار الهلال تحتفظ بأنفاس حمدى لطفى عميد المحررين العسكريين التى سجلها فى كل حروب مصر، وأبهاها وأروعها ما كتبه عن حرب أكتوبر.. ولا تزال صفحات الأهرام تستضيئ بصور الفنان المصور محمد لطفى، وكفاه أنه كان صاحب الصورة الأشهر لتوابيت جنود الاحتلال الإسرائيلى خلال حرب أكتوبر المجيدة.
كل ما كتبوه كان ترجمة لصباح يوم كانت تباشيره تنبئ أن قادما فى الطريق قد يغير مجرى الحياة دون إعلان صريح، ودون جلبة الأخبار العاجلة أو الموسيقى الصاخبة، كل شيء بدا عاديا إلا من إرهاصات يعرفها عدد يسير من علية القوم وهم يباشرون منذ سنوات أعمالا لا يعرفها إلا هم ومن على العزم قد أقسموا.
خمسون عاما قد مضت على تلك اللحظات الإنسانية النادرة ونحن فى كل عام نستعيد الجديد دون أن ننسى قديما لا يزال فى علوم العسكرية جديدا يدرس فى الأكاديميات العسكرية العالمية، كان الكل فوق الكل وكانت مصر فوق الجميع، وكان البسطاء ينتظرون تلك اللحظة الحاسمة التى يستردون فيها ذواتهم التى فقدوها فى نكسة يونيه.
يوم عاش وسيعيش فينا لآلاف السنين، بموسيقاه، بصوره النادرة دون ألوان، بالأبيض والأسود، جنود يحملون الأمل فوق أعناقهم ويعبرون المستحيل إلى ضفة كم اشتاقت لأقدام مصرية تغمرهم بثراها الخالد وتعانق خطواتهم الثابتة من أجل تحرير طال انتظاره.
جيل نادر من الرجال، على الجبهة وخلف الجبهة ووراء وراء الجبهة، مواطنون تراصوا فى طوابير للصباح تبرعًا بدمائهم، ولصوص تابوا وأنابوا واعتزلوا لأنهم شعروا بيوم جديد استعادوا فيه إنسانيتهم التى سلبها عدو حاقد فى يوم أسود من أيام يونيه 1967م.
موسيقيون يقتحمون مبنى ماسبيرو الخاضع لحراسات مشددة حسبما تقتضى ضرورات الحرب والاستعداد والحماية والحراسة، يقتحمون الاستديوهات لينسجوا من خلايا إبداعهم موسيقى وشعرا وأغانى لا نزال نغنيها بذات الحماسة والتدفق والعمق... الله أكبر.. بسم الله.
وأنا على الربابة بغنى، والنجمة مالت على القمر.. ليست أشعارا وإنما لقطات لمساحات من حب هذا البلد لتبقى بنفس السخونة والنضارة والحيوية مهما مرت سنوات العمر، تتجسد فينا كل هذه الأحاسيس وتمد شرايين الحياة بمعنى لانزال نستعيده فى كل أزمة ومحنة ولحظة انتصار.
أعود إلى صفحات من بطولة القلم والصحافة فى حرب كنا فيها وفى قلبها أصحاب إطلالات جهادية نادرة، أفخر بأنى أنتمى إلى هؤلاء الذين تعلمنا منهم وورثنا عنهم تاريخا تليدا للجهاد بالورقة والقلم وتمكن آباؤنا وأجدادنا من الصحفيين أن يخلدوا لحظات لاتزال حياة على رفوف المكتبات وبين مجلدات حية، نابضة، تحفظ لنا تاريخا صحفيا مشرفا.
أستطيع وفى كل عام وفى مثل هذه الأيام أن أقول وبصوت عال «ارفع راسك فوق أنت صحفى» فالمجد ليس شرطا أن يكون من صنعنا، فتاريخ الآباء والأجداد تتوارثه الأجيال وتفخر به.. افتخر بأنك صحفي؛ لأن جيل الرواد صنعوا لنا تاريخا خالدا بين صفحات أكتوبر المجيدة.