حكاوي زمان، إحسان عبد القدوس يكشف: ابني فرض علىّ الأحكام العرفية
في مجلة روز اليوسف عام 1947 كتب الكاتب الأديب إحسان عبد القدوس - الذي رحل عام 1990- مقالا يصف فيه معاناته مع قدوم أول مولود له ابنه محمد، قال فيه: اكتشفت أخيرا لماذا يحب الآباء أبناءهم.. إنهم يحبونهم لأن في طبيعة الإنسان أن يحب السيد القوي المغتصب الظالم الذي لا يرحم، والابن منذ اليوم الأول الذي يولد فيه هو هذا السيد..
وقد عشت حياتي كلها حرا طليقا ثائرا لا أحترم تقليدا ولا قانونا، ولا أسمح لكائن من كان أن يحد من حريتي أو يفرض عليَّ أمرا.. إلى أن جاء ابني فاحتلني احتلالا عسكريا وفرض علىَّ قانونا عرفيا ظالما، وسلط أمره ونهيه على جميع نواحي حياتي..
ولم يسمح بالدخول في مفاوضات لعقد معاهدة تحدد ما له وما لى، فكل شيء له ولا شيء لى، كنت أنام عندما أشاء وأصحو وقتما أشاء.. فإذا بهذا الإنسان الصغير العزيز الذي لا يتجاوز عمره أياما يفرض سلطانه علىَّ فلا أنام إلا إذا نام.. فإذا صحى صحوت لأكون بين يديه..
وكانت لي سيدة عزيزة جميلة أوقفت عمرها واهتمامها علىَّ فإذا بالجبار يغتصبها منى اغتصابا، وإذا بعمرها كله له وقلبها وروحها وأعصابها له، ولم يترك لي منها شيئا ولا حتى الإحساس بوجودي، حتى الهواء حرمني منه..
وقد اخترت أن أعيش فى غرفة تلمس السماء ويصفر فيها الريح، وكانت أعصابي لا تستريح ولا تهدأ إلا إذا شعرت بالهواء البارد يصل إلى عظامى والريح القوى يخبط بجسدي.. إلى أن سكن الطفل الغرفة المجاورة واتخذها مقرا لقيادته، فإذا به يحكم علىَّ أن أغلق النوافذ كلها حتى لا يتسرب الهواء ويؤثر في جسده الرقيق، ولا يهم بعد ذلك أن أختنق أنا أو أموت من الحر..
وفي عملي زملائي وعمال المطبعة تعودوا مني المفاجآت فقد كنت أكتب لهم عشر صفحات في يوم واحد وقد لا أكتب شيئا لعدة أيام، وقد أسلمهم مقالا في الواحدة بعد منتصف الليل أو في السابعة صباحا..
أما الآن وبعد أن فرض ابني الأحكام العرفية، فقد أصبحت انتهي من عملي في الواحدة ظهرا لأكون بعد ذلك بين يديه، وبدأ الزملاء والعمال يتهمونني بأنني أصبحت عاقلا ورب بيت، ورغم كل ذلك فإننى أحبه..
أحب هذا الجبار الصغير الذي لا يرحم، أحب هذا الظالم وأحب فيه ظلمه، أحبه وأخاف عليه من أطياف الخيال، أحبه وأعيش لأراه يوما يبتسم وأموت ليحيا، أحبه لدرجة أني اتصلت بصديقي الدكتور صادق فودة في الواحدة بعد منتصف الليل وصحت فيه: محمد بيعيط، فأجاب من بين أسنانه: «هشتكه»!