زهرات البيت النبوي في مصر (3) السيدة سكينة
ضريح السيدة سكينة واحد من أشهر الأضرحة؛ حيث عشقها المصريون سيرًا على درب محبة آل بيت النبي، فحين عرفوا أن بينهم زهرة من الروضة المحمدية سكنت نفوسهم، فقد أحسوا أنهم فازوا بالقرب من الأنوار.
إنها السيدة سكينة، أبوها سيد الشهداء الإمام الحسين، وجدها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأمها السيدة الرباب بنت امرئ القيس.
ولدت السيدة سكينة في رجب عام 47 هـ، ولقبتها أمها باسمها “سكينة” لهدوئها وسكونها، أما اسمها الحقيقي، فقيل: أميمة أو أمينة أو أمية، كانت سكينة بيت النبوة، الزهرة التي تفتحت في أرض المحروسة.
أحبها والدها السبطُ العظيمُ، رضي الله عنه وأرضاه، حبًّا جمًّا، وقال في ذلك شعرًا:
"لَعَمرُكَ إِنَّني لَأُحِبُّ دارًا تَحلُّ بِها سَكينَةُ وَالرَبابُ
أُحِبُّهُما وَأَبذُلُ جُلَّ مالي وَلَيسَ بِلائِمي فيها عِتابُ
وَلَستُ لَهُم وَإِن عَتِبوا مُطيعًا حَياتي أَو يُغَيِّبني التُرابُ".
قدوة لكل مسلمة
كانت قدوة للمرأة المسلمة في الظاهر والباطن؛ فتيات مكة كن يقلدنها في طهارتها وعبادتها، وفي هندامها وأناقتها، عُرفت بجمال الأخلاق والخلقة، متعبدة مستغرقة مع الله، عاصرت أباها الحسين، في فترات الجهاد والشدائد، فكانت له نعم العون، محبة للعربية ولدراسة آدابها وقواعدها، واهتمت بتعليم المسلمين، فكان لها في ميادين العلم والفقه والأدب شأن كبير.
تزوجها مصعب بن الزبير بن العوام، فولدت له طفلة سمتها على اسم أمها «بضعة النبي»، فاطمة الزهراء، لكن مصعب لم يلبث أن قُتل، فتزوجت بعده عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام فولدت له عثمان.
بعد رحيل الإمام الحسين، عاشت «سكينة»، رضي الله عنها، إلى أن توفيت سنة 117هـ عن عمر سبعين عامًا، وذكر الإمام عبد الوهاب الشعراني في طبقاته «أنها مدفونة في مصر بالقرافة، قرب السيدة نفيسة»، وكذلك في طبقات الناوي والحلبي.
ويعد ضريح السيدة سكينة أول مشاهد الدرة النبوية في مصر، وأنشأ لها المأمون البطائحي، وزير الآمر بالله الفاطمي، مزارًا، وبنى عليه قبة بعد سنة 510 هـ، وأشار له علي مبارك في خططه، فقال إنه أقيم في مصر بحي الخليفة عن شمال الزاهد إلى القرافة الصغرى، وكان في بدايته زاوية صغيرة.
ثم ألحق بالضريح مسجدٌ أقامه الأمير عبد الرحمن كتخدا سنة 1173هـ (1760م)، وعمل على الضريح مقصورة من النحاس سنة 1266هـ، ثم أمر الخديو عباس حلمي الثاني بتجديده سنة 1322هـ، وأصبح له ثلاثة أبواب غير الميضأة، اثنان على الشارع والثالث الباب المقبول في الجهة القبلية، يُفتح على درب الأكراد.
كريمة الإمام الحسين
هي كريمة الإمام الحسين، وحفيدة كل من الإمام علي والسيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنهم، وهي من مجددي القرن الثاني للهجرة، وفضلا عن كونها مرجعًا في الأحاديث النبوية وتفسيرها، فقد كانت أول امرأة في الإسلام، إن لم يكن في العالم، تقيم ندوة أدبية يحضرها الأدباء والعلماء والفقهاء.
وتقول الدكتورة سعاد ماهر صاحبة موسوعة المساجد: "إذا كان الغرب يفتخر بندوات نسائه العلمية والأدبية في القرن الثامن عشر، فإن للعرب أن يتباهوا ويفخروا بندوات نسائه في الأندلس التي سبقت الغرب بعدة قرون، فقد كانت ندوات «ولادة بنت المستكفي» في القرن الحادى عشر الميلادي مجمع العلماء وأهل الأدب والفن، على أن ندوات «ولادة» لم تكن الأولى من نوعها في الإسلام، فقد سبقتها في القرن الثاني الهجري ندوات نسائية في المدينة المنورة، وكان أول من سنها هي السيدة سكينة بنت الإمام الحسين، ثم تبعتها بعد ذلك غيرها من سيدات قريش".
اشتهرت السيدة سكينة بأنها صاحبة أول ندوة أدبية في تاريخ الثقافة العربية تقيمها المرأة ويقف ببابها الرجال، وكان من بينهم فحول الشعراء، وفي مقدمتهم الفرزدق وجرير وجميل وعمر بن أبي ربيعة، خصوصا في موسم الحج من كل عام.
طالبين أن تأذن لهم بإنشاد أشعارهم من وراء حجاب، كما كان يؤم ندوتها العلماءُ والفقهاءُ، وما كان يصدر عن هذه الندوة من آراء وأحكام نقدية وعلمية وفقهية حتى كان الشاعر لا ينشر قصيدة على الناس قبل أن ينشدها داخل الندوة وتجيزها السيدة سكينة، وغير الشعر امتدت ندوة السيدة نفيسة إلى الاهتمام بفنون القول.
كما استوعبت ندوتها الموسيقى والغناء، وكان حكمها على كل ذلك مبنيًّا على علم واسع، وإحساس صادق.. لقد نشأت السيدة سكينة في مهاد العلم والفضل والحسب والنسب، فجدها لأبيها هو الإمام علي، كرم الله وجهه، وأبوها الإمام الحسين وعمها الإمام الحسن أول أمير للمؤمنين بعد الخلفاء الراشدين الأربعة.
شخصية السيدة سكينة
وقد بدأت شخصيتها تتبلور وهي في الثالثة عشرة من عمرها حتى أنه لم يأت موسم الحج في العام الستين للهجرة إلا وكانت هذه الفتاة قبلة الأنظار والمثل الذي يحتذى به بين فتيات المدينة، وقد نقلت الكثير من الروايات أنه في موسم الحج شاعت الطرة السكنية أو الجمة أو القصة أو الخصلة، فلم تبق في المدينة شابة إلا قلدتها في تصفيف شعرها.
وقد فطرها الله على الحسن والجمال الذي تؤخذ له القلوب غير أن هذا لم يشغل السيدة الطاهرة عن الانصراف لدينها، بل كانت تصل في تعبدها إلى درجة الاستغراق التام والانصراف عمن حولها.
كما كان لها استغراق آخر يترجمه اهتمامها بالأدب وتذوقها له، ولعل هذه السمة اكتسبتها من البيئة المحيطة بها عامة، تلك التي كانت بيئة أدب ومكانتها كابنة للإمام الحسين وحفيدة الإمام علي، وما كانا عليه- كل منهما- من بلاغة في القول وفي الأدب ربما يميزها عن آل البيت.
ولا يمكن التعرف على جوانب الدور التجديدي المهم للسيدة سكينة في حياة العلم والفقه خاصة والثقافة العربية عامة، دون معرفة شيء عن نشأتها الأولى في بيئة طاهرة، تجل الكلمة شعرا ونثرا وتقدر قائليها شعراء كانوا أو كتابا أو علماء، وإذا ما تيسر ذلك فلا مناص من معرفة علاقة هذه السيدة الطاهرة بمجتمعها.
وعلينا أيضا أن نعرض لمسألة وجودها بمصر في الضريح المقام بالمسجد المعروف باسمها بالقاهرة، ويذكر الإمام الشعراني في طبقاته: أنه لما دخلت السيدة نفيسة مصر كانت عمتها السيدة سكينة، رضي الله عنهما، المدفونة قريبا من دار الخلافة مقيمة بمصر، ولها الشهرة العظيمة.
وهذا المسجد الذي يشرف باحتضان رفاتها الطاهر، بناه خصيصا لها عبد الرحمن كتخدا عام 1173 هـ، وكتب عليه اسمها.