الأهرامات تحت سيطرة الأمن
الشمس تنتصف السماء في واحد من أشد أيام يوليو حرا مع رطوبة أقبلت بشكل كثيف لتضيف إلى الحالة نوعا من المطاردة القاتلة والمنطقة تخلو من الأشجار أو المظلات وباصات السياحة تتراص بشكل عمودي يشبه إلى حد كبير قطار طويل متعرج.
يصل الباص إلى منطقة حجز تذاكر الدخول، والدفع إلكترونى فقط، آباء وأمهات وأسر جاءت للزيارة التي ستنطبع في ذاكرة الأولاد حتى نهاية العمر.. نحن الآن في الطريق إلى منطقة أهرامات الجيزة أهم معلم أثري في العالم.. المشهد مزدحم في موسم سياحي كسنابل قمح الأرض الطيبة.
في هذا الجو القائظ يحتمي السائح بملابس خفيفة بيضاء في معظمها وقبعات على الرأس لعلها تحمي قليلا من شمس تبدو أعلى من درجة القسوة كثيرا.. الأفواج السياحية تتراص لحجز التذاكر استعدادا للدخول.. الأمن في كل مكان بين مدجج بسلاح يظهر على العامة وآخر لا يخفيه من جاكت بدلة مدنية عادة ما تكون سوداء وغالبا ما يكون المكوجى لم يزرها منذ زمن.
ضباط وأمناء وجنود ينتشرون بالموقع في مشهد قد يبدو غريبا على العيون الغربية بل والشرقية أيضا.. مشهد لا يعبر عن حضارة ولا يشي بدولة سياحية قديمة، بعضهم يجلس على كراسي منتهية الصلاحية وبقايا السجائر تحت أقدامهم تزين المكان وبعضهم يدور في حلقات مفرغة وواحد منهم يرتدي زيا مدنيا يطالع تذاكر الزوار وهو جالس على مقعده القديم جدا.
على يمين منطقة التذاكر عم سباعي أقام بوفيه متواضعا للغاية يصنع القهوة على سخان من النوع البالي وتظهر أسلاك التنجستين التي درسناها في مدارسنا الابتدائية في منتصف القرن الماضي وعلى جانبي البوفيه تتراص كراتين الماء بشكل عشوائي وبعض أكياس الشيبسي في مشهد مترد للغاية.
فوضي عارمة
أسر الفلاحين والعمال والبسطاء التي جاءت عادت كما جاءت لأن الأب ليس لديه فيزا كارت ولا يوجد هنا شباك للدفع كاش، أما الأجانب فلا ضرر أن يحجز تذاكرهم مندوب من الفندق أو الشركة السياحية.. بوابات تفتيش إلكترونية وجهاز للكشف على الحقائب وإضافة إلى ذلك يقف أحدهم ليفتش الداخلين تفتيشا ذاتيا مهينا.
الكاميرات ممنوعة ومن أراد التصوير فليستخدم المحمول أما كاميرات الفيديو فممنوعة بقرار أغرب من الخيال.. كاميرات التليفزيون جريمة تستلزم من صاحبها أن يحصل على إذن من وزارة الداخلية بإجراءات معقدة ومملة وطويلة ولا مبرر لها على الإطلاق.
الموقع الأعظم في تاريخ البشرية تحت سيطرة نظرة أمنية بالية تتحكم في كل التفاصيل وتشكل في وجدان القادمين تجربة سياحية مروعة لا تدفع صاحبها إلى العودة مرة أخرى وفوضى عارمة تعشش في جنبات المكان وترسم لوحة بشعة حول التاريخ والإنسان والمكان.
أنت الآن داخل حرم الأهرامات العظيمة.. المشهد مهيب لا يشوه جلاله إلا أصحاب الكرتات المتهالكة التي تجرها بغال مريضة مع عدد من الإبل الضعيفة الواهنة التي تدعو الزائر إلى الإشفاق عليها وربما تقطع عنك حبل أفكارك وأنت تقف كنملة بجوار بناء شاهق عظيم المنظر وخلفية كئيبة وحزينة وفقيرة.
السائحون يمضون في طريقهم منزعجين وفي عيونهم حالة من الرعب والخوف من قادم لا يعرفونه في واحدة من أسوأ التجارب السياحية.. بلاد لا تملك ما نملك خطت سريعا في تجاربها السياحية بفضل التحضر وصبغ بلادهم بالحالة الإنسانية الجاذبة بعيدا عن الأفق الأمني الضيق.
حول الهرم الأكبر سلسلة حديدية ربما تعود إلى زمن خوفو، متقطعة ويكسوها الصدأ وكأنها وضعت لتعبر عن حال المصري الحديث.. لا أعرف من يشرف عليها أو من وضعها أو من يصونها أو يغيرها بعد أن بليت وأكل عليها الدهر ولم يشرب!!
المشاهد التي تراها حول الأهرامات أبعد ما تكون ارتباطا بين بُناتها وبيننا اليوم.. دفتر الحالة يجعل من الكنز الثمين مزارا لا تشد إليه الرحال ولا تراق من أجله قطرة عرق ولا تسن فيه إلا أقلام النقد والقدح والذم.. ارحموا تاريخنا من هذا العفن قبل أن يهاجر الهرم وبناته!!