رئيس التحرير
عصام كامل

حكاوي زمان، خواطر الأديب إحسان عبد القدوس فى الحج

إحسان عبد القدوس،
إحسان عبد القدوس، فيتو

سافر الكاتب الأديب إحسان عبد القدوس عام 1958 إلى الأراضى الحجازية لأداء مناسك الحج وعند عودته من رحلة الحج كتب يصف شعوره وإحساسه وهو يؤدى تلك المناسك، حيث الوقوف أمام الكعبة والطواف والسعى، فعاد وكتب فى مجلة روز اليوسف عام 1958 مقالا قال فيه:

 

إن العقل الذى مهما وعى ومهما اتسع له الأفق لا يستطيع أن يخرج عن حدود المادة ولا يستطيع أن يعى أكثر مما يلمسه. يجب أن أسكت هذا العقل إذا أردت أن أصل إلى الله، فيا رب أعِنِّى على عقلى، أنا عارٍ إلا من كفنى.. 

 

فأنا ذاهب لأبحث عن الله فى بيته. رأيت الجبال التى تحيط ببيت الله وقد انحنت كلها إلى الأمام وكأنها الملائكة خشعوا سجدا. رأيت جبل النور حيث غار حراء يقف بينها ضخما عاليا مشرقا كأنه عرش الله، رأيت موجات الرمال كأنها آثار أقدام عمالقة من هواء لا نراهم، وهم يسعون حول العرش العظيم. 

 

راحة نفسية، أحسست برياح ندية تملأ صدرى وراحة عقلية، وأحسست كأنى ارتفع عن السيارة التى أجلس فيها، وأسعى فى الهواء وأنا بملابس الإحرام بين الجبال والأودية فى طريق صحراوى، ارتجفت وخفت.. إننى حقا فى طريقى إلى الله، لم أرفع عينى عن الكعبة، لا أريد أن أرفعها، إننى منكس الرأس مغمض العينين، أسير وراء الدليل بلا وعى. 

 

بدأت الطواف وسط مئات يطوفون ولا ينقطع طوافهم ليل نهار.. وبدأت البحث عن الله فى بيته.. ولا أستطيع أن أصل إليه. يا رب إنى لم أصل لك كثيرًا، ولم أصم لك كثيرًا لكنى آمنت بك كثيرًا، وخفتك كثيرًا وراعيت حقك فى الناس كثيرًا واستغفرتك كثيرًا وتوكلت عليك كثيرًا فلا تحسبنى فى عداد الكافرين وأبعد عنى العذاب الأليم. 

 

بدأت الطواف وأنا أرتجف خشية ربي، وفى الطوفة السادسة، لم أعد أشعر بكيانى.. إنى روح خالصة لله وانكفأت على جدار الكعبة ونزلت الدموع من عينى، وتعلقت فى أستارها بيدى ورأيت الله، رأيته فى قلبى وفى صدرى وفى كل خلجات نفسى. فى الطوفة السابعة أحسست بأن هواء طاهرا رطبا يملأ صدرى ويكاد يرفعنى عن الأرض، ويسير بى فوق السحاب، لم أشعر بالبيت ولا بالمسلمين الطائفين معى، ولا الوقت ولا رفقائى فى الحج، وعندما قبلت الحجر الأسود لم أشعر بشيء.. 

 

لكنى توقفت وسألت نفسى وأحسست ببعض التأنيب.. هل جئت لأطلب من الله شيئا أم لأنى فقط أحب الله حبا خالصا؟ أنه عالم كبير لا يجمعه شيء إلا الإيمان بالله.. والإيمان ذخيرة كبيرة لو عرف المسلمون.. ذخيرة تستطيع أن تجمعهم للعلم وللفن وللحرب والسياسة وللحضارة وللسلام العام. 

 

لقد نسى المسلمون حكمة الله ونبيه.. إنهم يأتون إلى هنا وكل منهم لا يسعى إلا إلى تصفية حسابه مع الله، والحصول على صك الغفران ويعود إلى أهله وهو يحمل لقب حاج ولا ينتظر منهم إلا أن يستقبلوه على محطة كوبرى الليمون بالطبل والزمر ويقبلون يده تبركا ويضعونه فى عربة حنطور تطوف به الحوارى والأزقة، ويصل إلى بيته يجد صور الكعبة وعبارات الحج معلقة على بابه ويناديه الجميع يا حاج فلان، وتذبح الذبائح وتعلو الاحتفالات. 

 

 

غربت الشمس وخيل إلىَّ أنها غربت عن هذا البيت الأمين وتركت وراءها هالة كبيرة، وقفت أصلى وكأنى لم أنقطع عن الصلاة يوما وكنت سعيدا راضيا لأنى قربت من الله ورضائه.

الجريدة الرسمية