فضلًا.. كفاية تحريك لسعر الصرف
أتمنى أن تتمتع حكومة الدكتور مصطفى مدبولي بالحكمة والتريث، وعدم الانصياع لرغبات المؤسسات المالية الدولية، وأن تنظر بواقعية للعواقب الاجتماعية الكارثية التي قد تنعكس على الأغلبية العظمى من المصريين، قبل الإقدام على عملية التخفيض الجديد لقيمة الجنيه المصري، التي تعتزم القيام بها قبل المراجعة الدورية لصندوق النقد قبل نهاية الشهر المقبل.
ولأنني أتحدث هنا من وطني مجرد من أي أهواء سوى مصلحة هذا البلد، أتمنى أن يعي الدكتور مدبولي وكامل حكومته أن المواطن المصري البسيط لم يعد يعنيه التبرير، أو الأسباب التي أدت بالأحوال الاقتصادية للبلاد إلى تلك الحالة، بل بات يعنيه فقط الستر، وألا يتحمل أعباءً جديدة قد تترتب على الانصياع لرغبات المؤسسات المالية الدولية، وإجراء تحريك جديد لسعر صرف الجنيه مقابل الدولار وسائر العملات الاجنبية يرفع من حجم التضخم ويزيد من أسعار السلع، التي اضطر جبرًا خلال العام الأخير إلى الاستغناء عن أغلبها، لدرجة باتت معها اللحوم والدواجن لديه بمثابة الترف.
تحريك سعر الصرف
الواقع يقول أن الإقدام على تخفيض جديد لقيمة الجنيه المصري لن يعود سوى بالسلب فقط على المصريين مثل سابقه من عمليات تحريك لسعر الصرف، بل إنه لن يستطيع أيضا علاج الداء، الذي لن ينتهي إلا بتوفير الدولار بشكل كافٍ، والوصول به إلى الحد الذي يجعل البنوك قادرة على الوفاء بالتزامات الجميع.
أي أن التحريك القادم لسعر الصرف باختصار لن يستطيع أن يوقف المضاربة على الدولار، بل سيقفز بسعره في السوق السوداء فوق حاجز الـ50 جنيها، وستقفز معه كل أسعار السلع الأساسية وغير الأساسية إلى الحد الذي يؤدى إلى توابع اقتصادية واجتماعية أكثر كارثية.
الواقع الذي لا يقبل التجميل يؤكد أن موجات تحريك سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية السابقة قد وصلت بآلاف الأسر المحترمة للمرة الأولى في تاريخ البلاد، إلى حد العجز حرفيا عن تدبير قوت يومها، وأن الرضوخ المتكرر لرغبات المؤسسات المالية الدولية قد حول الآلاف من أرباب الأسر المصرية إلى منكسرين أمام ذل الحاجة والاستدانة والتسول لكبح جوع أسرهم، وأن الإقدام على تحريك جديد قد يؤدى إلى تفشي جرائم مثل السرقة والسطو والقتل جبرًا بين طبقات كانت مستورة.
وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد، بل إن التوابع الكارثية لذل الحاجة وكبح الجوع قد تزيد من المشكلات الأسرية، وتضاعف من حالات الطلاق، وتفرز جيلا من غير الأسوياء نفسيا بحكم التشتت الأسرى، وتزيد من كارثة الانحراف والإدمان بحكم الجهل والفقر وفقدان الأمل.
والأكثر وجعا أن ضغط الحاجة قد يضطر سيدات وفتيات من أسر محترمة إلى الخروج والتحول جبرًا إلى ساقطات، وعرض أنفسهن لكل من يدفع بفعل الفقر، ويجبر آلاف الشباب على المخاطرة والإلقاء بأنفسهم وأبنائهم إلى خطر الموت، بحثا عن لقمة العيش وسط أمواج لا تعرف الرحمة في هجرات غير شرعية، أو البحث عن أمل وسط جحيم نيران الميليشيات في ليبيا.
أتعشم أن تعي الحكومة قبل الإقدام على قرار تحريك سعر الصرف القادم أن هناك فئة ضخمة من المصريين لا تزيد دخولهم عن الألفي جنيه وأقل، وجميعهم مطالبون بتلبية احتياجات أسرهم من مأكل ومشرب وملبس وإيجار وتعليم ودروس خصوصية وفواتير كهرباء ومياه وغاز ومواصلات وعلاج، في الوقت الذي يحتم المجتمع عليهم أن يكونوا شرفاء ونظيفي اليد، وقدوة لجيل قادم.
مافيا تجارة العملة
دعونا نتفق أن الحكومة قد فشلت في علاج كل الثغرات التي كان ومازال من الممكن أن تسهم كثيرا في حل أزمة توفير الدولار، بل ومازالت تتهاون لأسباب مجهولة في إغلاق الكثير منها، ويأتي على رأسها مافيا تجارة العملة التي مازالت الحكومة تغض الطرف عن ممارساتها غير المشروعة، لدرجة حولت شوارع بأكملها في مدن مصرية إلى أسواق علنية لتجارة العملة.
وما يدعو للعجب، أنه رغم الأزمة الطاحنة التي تهدد البلاد، مازالت تلك المافيا تعمل بكل أريحية، وتجمع يوميا ملايين الدولارات، يتم توريدها لأغراض لا يعلم مدى مشروعيتها إلا الله، بل إن الكثير من رجال الأعمال وأغنياء الغفلة بدأوا في التعاون مع تلك المافيا وجمع ملايين الدولارات يوميا وتخزينها؛ انتظارا لقرارتحريك سعر الصرف القادم.
المحزن، أن أفراد تلك المافيا معلومون بالإسم، ويعرفهم الجميع في كل قرية ومركز في مصر، ومعهم عملاء الداخل الذين يعملون لصالح مافيا الخارج التي تشكلت في كل العواصم الخليجية بعد عام 2014 للاستحواذ على مدخرات المصريين من المنبع لصالح جهات مجهولة.
وهي المافيا التي فشلت الحكومة أيضا في السيطرة على أنشطتها المريبة في الداخل والخارج، رغم إضرارها عمدا بالاقتصاد الوطني على مدار 9 سنوات، حيث تقوم بتجميع مدخرات المصريين بدول الخليج، وتسليم مقابلها بالجنيه المصري لذويهم في مصر، خلال دقائق معدودة وبأسعار تفوق السوق السوداء، من خلال عملائهم الذين باتوا ينتشرون في القرى والمدن المصرية كافة.
أتعشم أن تتمتع الحكومة بالمسؤولية الوطنية تجاه الأغلبية العظمى من المصريين، وأن تبحث عن حل للأزمة بعيدا عن تحريك سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، الذي سيخلف تبعات اجتماعية كارثية، تضع الحكومة أمام مسؤولية لا طاقة لها بها أمام الله والتاريخ.. وكفى.