موقعة المهندسين
لم يكن المشهد الذى أطل بتفاصيل مرعبة جديدا على أمثالى، غير أنى اعتبرته من مشاهد الأبيض والأسود القديمة البالية، والتى كنا قد ظننا أنها لم تعد إلا فى صفحات التاريخ الأسود لتعامل أجهزة الدولة الساذجة مع معطيات مستقبل لم يعد فيه ما كان ممكنا أن يكون.
عادت بى الذاكرة إلى بدايات تسعينيات القرن الماضى ، عندما قرر أحد أقدم أحزاب المعارضة عقد مؤتمره الثالث فى قاعة بنك التنمية والائتمان الزراعى بشارع قصر العينى، وكان اليوم جمعة، وقاهرة المعز تبدو على هدوء نادرًا ما تلقاه فى أيام أخر.
بدأت وفود القادمين من المحافظات تسجل حضورها بالقاعة حيث تنتخب الجمعية العمومية رئيسا للحزب وبقية التشكيلات المقرر تجديدها، كنا شبابا نظن أن التجربة يمكنها فى يوم من الأيام أن تصنع ماكينة مصرية لتداول سلمى للسلطة.
حالة صدمة
اكتظت القاعة بالحضور من كل محافظات مصر، وبدا واضحا أن تربيطات العملية الانتخابية تأخذ شكلا جادا ومثيرًا وساخنا، الجميع ينتظر رئيس الحزب الذى كان فى هذه المرحلة يقول رأيا حرا ومقلقا للسلطة، كان الرجل باختصار يعزف خارج المنظومة التى وضعها سلطان البلاد وحزبه المتغول فى كل التفاصيل.
وصل رئيس الحزب ومِن حوله عدد لا بأس به من أتباعه ومريديه والمؤمنين به، وقف أمام القاعة فى شارع قصر العينى، وإذ بسيدة تقتحم الحشد الانتخابى وهى تقول: عندى شكوى يا بيه.. طلب الرجل من الحضور الإفساح لها، وبينما يتحدث معها على ملأ كبير صرخت السيدة وهى تمزق عباءتها السوداء من فوق صدرها وهى تقول: بتمسكنى من (....)!
حالة من الصدمة غلفت المكان والحضور، وإذا بضابط شرطة يقف أمام السيدة وهو يقول: حضرتك اتصلت بالنجدة.. قالت نعم.. قال: وما هو بلاغك؟.. قالت: الرجل ده قطع هدومى ومسكنى من (...). وهنا قطعنا المشهد بعد أن حملنا رئيس الحزب ودخلنا به القاعة وأغلقناها.
أدركنا أن اللعبة القذرة ما زالت تعبث بالحياة الحزبية، وعقدنا مؤتمرنا وانتهت الانتخابات، وأعلنا عن أسماء الفائزين لنفاجأ فى اليوم التالى بالصحف القومية كلها دون استثناء تحمل مانشيتات «رئيس حزب... يعتدى على سيدة بالشارع العام ويمزق ملابسها ويلامس مواقع حساسة من جسدها»!
لم يكن هذا الإخراج وحيدًا أو نادرًا، فقد كان مخرج النظام عقيم الأفكار وساذج الرؤية غير أنه وللأمانة قاد هذا الشعب إلى التغيير بالثورة، فكانت 25 يناير هى ثمرة العبث بإرادة الناس، لسنوات طويلة، قاد فريق العبث حياتنا السياسية وقادنا إلى حيث أصبحنا.
ناقوس الخطر
كنت، وبعد يناير، قد آمنت بتصور أن هذا الوطن لن ينصلح حاله إلا إيمانا بإرادة الناس، وتحمل الشعب مسئولياته دون وصاية أو حبس إرادة، وجاءت ثورة 30 يونيو فكان التغيير فيها بالجماهير، التى خرجت لتعبر عن رفضها اختطاف مصر إلى موقع ليس فيه من هويتها إلا فتات.
ومرت بنا سنوات العمر بين الأمل والغبن نتأرجح، حققنا إنجازات وانكسرنا كما لم ننكسر من قبل، وتراجع دور بلادنا فى الخريطة الجديدة، ونحن نناضل من أجل تصحيح الوضع أو لفت الانتباه، إلا أن تشابه المقدمات يؤدى إلى ذات النتائج، والتاريخ كتاب فيه من العبر ما يجعلنا ندق ناقوس الخطر من هنا ، ومن فوق أرضنا ومن منابرنا، دون هروب أو خوف أو اعتماد على الخارج.
بالأمس القريب تابعت بيان نقيب المهندسين طارق النبراوى، الذى أشار فيه إلى دور حزب مستقبل وطن فى الدعوة إلى سحب الثقة منه، وهو الأمر الذى نفاه الحزب فى بيان رسمى صادر عنه ونشرته كافة الصحف المصرية، بل نشرته وكالات الأنباء الأجنبية.
يبدو لى أن المخرج الذى أكل عليه الدهر وشرب قد عاد إلينا من جديد، عاد بنفس زاوية التصوير وبذات السيناريو السطحى، وبأدوات عفا عليها الزمن، ولم يعد من المنطقى أن يعتقد أن الناس ستصدق الفيلم أو تروج لرواية ثبت عفنها وفسادها.
فضيحة موقعة النقابة
وفى يوم مشهود، زحفت قوافل المهندسين من كل حدب وصوب إلى المكان المعلوم، لسحب الثقة من النقيب، وجاء المشهد معبرا عن رغبة أكيدة فى تجديد الثقة فى النقيب، واعتباره معبرا عن إرادة مهندسى مصر، وهم نخبة يشهد لهم التاريخ بما قدموه لوطنهم.
وكان الحضور كثيفا وحماسيا وجاء على غير ما تهوى نفوس ضعيفة، وأدوات تنتمى إلى ذلك العهد البائد فكانت الفضيحة الكبرى، اعتداءات وبلطجية، ضرب وسحل، تمزيق لبطاقات الاقتراع وتحطيم للصناديق.. كر وفر.. استغاثات وصراخات.. مشهد لا يمكن وصفه إلا بالفضيحة والعار.
ولأننا لسنا فى القرن الماضى فقد سجلت كاميرات الهواتف المحمولة كل التفاصيل بدقة، وبدا واضحا أن أسماء تنتمى بالفعل إلى حزب مستقبل وطن متورطة فى الاعتداء وتحطيم الصناديق، وبدا واضحا أيضًا أن كل ما جرى يتوافق مع بيان النقيب السابق ليوم الحدث الجلل.
بعد ساعات من فضيحة موقعة نقابة المهندسين صدر بيان آخر عن حزب مستقبل وطن ينفى فيه علاقته بالأحداث جملة وتفصيلا، وهنا مربط الفرس، فإذا كان الحزب ينفى تلك العلاقة فلماذا لا يفتح تحقيقا مع أعضائه الذين تورطوا وتناقلت صورهم وسائل الإعلام العالمية والمحلية؟
أتصور أن تحقيقين مستقلين أصبحا ضروريين الآن.. على حزب مستقبل وطن أن يقوم بالتحقيق الفورى مع المتورطين من أعضائه وسبب وجودهم فى موقع الانتخابات فى هذا اليوم، وهل حضورهم كان شخصيا أم تكليفا من قيادات بالحزب وإعلان نتائج هذا التحقيق على الرأى العام فورا حماية لحزب هو حزب الأغلبية الحاكم.
أما التحقيق الثانى فيأتى من داخل نقابة المهندسين وفق لجنة قضائية مستقلة توضع أمامها كل الحقائق وتستدعى من تشاء للوصول إلى نتيجة توضع أمام الرأى العام المصرى، باعتبار أن ما حدث لا يهم المهندسين وحدهم، وإنما يتعدى حدود ذلك إلى ما هو أبعد.
ما حدث ليس واقعة اعتداء عادية، إنما هو حالة من حالات كسر الإرادة الحرة لطيف مصرى أصيل، وقبل ذلك هو حالة من حالات العبث باستقرار وطن نظن أنه لا يحتمل هزة عنيفة أخرى فى وقت يموج فيه محيطنا الإقليمى بكل صنوف العنف والقلق والفوضى.