الحياة في العوينات
بعد ساعتين ونصف الساعة على متن طائرة عسكرية وصلنا إلى مطار شرق العوينات فى السابعة والنصف صباحا، وقبيل الهبوط بلحظات، كان المشهد مغايرا لطبيعة المشهد الممتد لساعات، لم نر فيها إلا صحارى واسعة باتساع بحار من الرمال الصفراء.
كان المشهد المغاير كنبضة من الحياة وسط موت يغلف المكان المتسع من صحراء جنوب شرق مصر، ومضات من الخضرة تمنح الروح حياة، وتبث فى النفس أملا، وتدفع الدماء لتسرى فى عروق الغد القادم لأجيال نتمنى أن تكمل مشوارا أهملناه لقرون طويلة.
هجوم أخضر على غرود الرمال التى شكلت على مدار آلاف القرون أشكالا مدهشة، ليس فيها من القواسم المشتركة إلا اللون الأصفر المعبر عن هجرة الإنسان بعيدا عنها، خوفا ورهبة من خلوها من الماء، سبحانه هو القائل ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾.
دبت الحياة فى مئات الأفدنة المهجورة، وطرق الإنسان المصرى بعزمه وقوته وإرادته أبوابا ليأتى جيل جديد يعمر ويكمل ما بدأناه، يقولون «العمار حلو» وأحلى ما فيه شجرة باسقة بألوانها الخضراء، منبئة عن حياة نابضة، وأمل يزرع فى النفوس ما هو أبعد من فكرة الحياة عابرا إلى الخلود.
إعادة ترتيب الأولويات تبدأ من هنا، من شرق العوينات حيث يقتحم المصرى أخطار الفراغ الساكن هنا منذ آلاف السنين ويعيد للقدم البشرى علاقته بالأرض ﴿فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾، مربعات ودوائر من الخضرة، وهنا أكبر مزرعة للنخيل فى العالم كله.
تتراص مليون ومائتا ألف نخلة جنبا إلى جنب فى مشهد بديع، تتخللها ألوان صفراء لثمار نظنها ستعبر الحدود إلى عواصم العالم المنتظر لواحدة من أكثر الثمار طلبا، وغاية لنمضى فى طريق إعادة ترتيب الأولويات من زراعة وصناعة، وقبلهما لابد من طرق باب التعليم وعبور نفق الصحة المظلم.
موسم حصاد القمح
من مطار شرق العوينات مضت بنا السيارة لمسافة خمسة وأربعين كيلومترا، نصف الطريق ممهد، والنصف الآخر يجرى العمل به على قدم وساق، وفى الطريق زراعات تتناثر هنا وهناك، بعضها لرجال أعمال، والأغلب الأعم ضمن مشروع الشركة الوطنية لاستصلاح وزراعة الأرض.
على جانبى الطريق يجرى العمل على تسكين البنية الأساسية، لاستكمال زراعة أكثر من مائتى وثمانين ألف فدان، وبعد منتصف الطريق الواصل إلى واحدة من كبريات شركات تصنيع البطاطس تمتد مساحات من القمح الذى حان وقت حصاده بلونه الذهبى الأصفر.
موسم جنى القمح، وتوفير ما يقارب المليون طن منه، من مساحة ظلت لآلاف السنين لا يسكنها إلا الخوف، ولا يتحكم فيها إلا الفراغ، أنا كغيرى كثر، ضعيف أمام كلمة زراعة وفلاحة ونبات وأشجار وكل مفردات الحياة ، التى عشناها صغارا فى قرانا القابعة حول نيل مصر العظيم.
اليوم مختلف تماما، نحن لا نفتتح كوبرى ولا طريقا ولا محورا، رغم أهمية تلك المشروعات، نحن بصدد رؤية اللحظة الحاسمة التى ينتظرها الفلاح القديم، وأفراحه عند الحصاد، فالحصاد يعنى أن بذرة نثرت ورويت وأطلت فوق الأرض، وارتفعت وتمايلت ونالت من الرعاية ما جعلها تخرج من خيرات الله ثمارا منها نعيش وعليها نبنى أملا للغد.
يتابع الرئيس بدء موسم حصاد القمح بتقنية الكونفرانس، يقف المهندس الزراعى بزيه، وسط بحر من سنابل القمح الذهبية، وهو يلقى التحية ويعلن عن المساحة التى يبدأ فى حصادها، ومن خلفه ماكينات الحصاد الحديثة التى تقوم مقام النورج، وأدوات قديمة توارثناها من الفلاح المصرى القديم الممتد تاريخه فى عمق الزمن.
دعوة للقطاع الخاص
قطرة المياه هنا، قطعة من ذهب، يعاملها الفلاح الحديث بأدوات من الحماية والإفادة، حيث لا مكان هنا لقطرة شاردة أو مهملة أو منسية، أحدث أساليب الرى، ومعانقة بين كل ما أنتجه العلم الحديث من أدوات وطرق، مع إرادة مصرية قررت اقتحام الصعب.
يشرح الرئيس فلسفة إنشاء مصنع البطاطس هنا على بعد مئات الكيلومترات من العمار الساكن فى خريطة مصر، هنا حقول ضخمة للبطاطس، فلماذا لا يكون هنا المصنع الذى يتعامل مع المنتج الخام وفى محيطه ثلاجات أضخم، ومنها تنقل فى ثلاجات متنقلة إلى الأسواق.
القيمة المضافة تنقل المنتج الزراعى من ثمرة خام إلى ألوان شتى من المنتجات، وتنقلها من خانة المنتج الخام الرخيص إلى خانة المنتج المتعدد الأغلى سعرا وقيمة، المشروع فى مجمله يعتمد عدة أطر هامة، أولها إنتاج القمح سعيا إلى الاكتفاء الذاتى من سلعة قد تعبث بها ظروف عالمية، لا دخل لنا بها.
وثانيها إنتاج واحد من أجود أصناف التمور لنعبر به إلى عواصم العالم، المتشوق لهذا النوع النادر والقيم، وثالثها خلق بيئة جاذبة للناس للانتقال، وخلق كيانات قابلة للحياة، ونقل المصريين من واديهم الضيق إلى مساحات أكثر رحابة واتساعا، باختصار بناء مجتمعات عمرانية جديدة قائمة على الزراعة الحديثة.
دعا الرئيس كل المنتمين إلى القطاع الخاص للعمل فى الموقع، بعد نجاح إعادة تأهيل توشكى والبدء فى مشروع توشكى 5 والاستفادة من المياه المخزنة بالمنطقة، وقهر الصحراء بمشروعات واعدة من الزراعات الحديثة، والدعوة فى حد ذاتها تحتاج إلى آليات عملية لإغراء المستثمر المصرى للعمل فى موقع مأمول.
وتأتى دعوة الرئيس للقطاع الخاص بعد أن تقلص دوره من 62 ٪ إلى 21٪ حسب التقارير الرسمية المصرية، وهو مادفع الرئيس إلى الدعوة إيمانا منه دون غيره بدور القطاع الخاص فى النهوض بالأمم.
كما قلت وأكرر أنا وغيرى نرى فيما أقدمنا عليه من اقتحام الصحراء- بنموذج علمى حديث فى الزراعة- خطوة فى الطريق الصحيح، وتلك الخطوة لابد وأن تتبعها خطوات، ليشارك الناس فيما هو قادم؛ فالناس هم مركز أى عمل يخطط صاحبه للنجاح.