مفاتيح السعادة، تقوى الله (8)
لن أزال أذكر أولى عبارات العهد الذي رددناه خلف شيخنا وأستاذنا أحمد أبو سليم، رضي الله عنه وأرضاه، في مستهل الطريق إلى الله، قبل نحو أربعين عامًا. "أعاهدكم على تقوى الله".. تقوى الله ركيزة رئيسة للإيمان، ومفتاح مهم للسعادة والفوز في الدارين؛ الدنيا والآخرة.
ولا يفلح مجتمع مسلم إلا بالتزام أهله بتقوى الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.. وإطاعة أوامره، واجتناب نواهيه. ذكر الله، تبارك وتعالى، التقوى في العديد من الآيات الكريمة، ومن ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
ومدح الله -عز وجل- عباده المتقين، حيث قال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، (وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تَتَّقُوا اللَّـهَ يَجعَل لَكُم فُرقانًا وَيُكَفِّر عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِر لَكُم، (وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّـهُ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).
وعرَّف سيدنا الإمام علي، رضي الله عنه، تقوى الله تعالى، بأنها: "الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل"، وعرَّف الصحابي عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، تقوى الله فقال: "أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وأن يُذكر فلا ينسى".
وقال الصالحون عن التقوى: "لو وقفت عند مراد التقوى لم يفتك مراد".. و"أكيس الكيس التقوى، وأحمق الحمق الفجور، وأصدق الصدق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة".. و"لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما فيه بأس".
تقوى الله عز وجل تكون بترك المعاصي والبعد عنها بشكل نهائي والتقرب من كل ما يقرب العبد من الله وعلى المرء أن يكون تقى في جميع الأحوال وكل الظروف التي يمر بها الناس، فإذا كان التقوى أمام الناس أو في العلن من الأمور السهلة على البعض، فهي من الأمور الصعبة عندما يكون الشخص وحيدا مع نفسه فقط بدون التواجد مع الآخرين ولا يراقبه في ذلك الوقت سوى الله عز وجل، وهنا تظهر حقيقة تقوى الله عز وجل وخوف المرء من الله وأنه يعمل لله عز وجل فقط.
وقد وصف الإمام الشافعي الإنسان التقيَّ بالشخص الورع، وهو أعلى درجات التقوى، وهو من الأشياء صعبة المنال. وعلى كل مسلم أن يتأكد المرء من أن الله عز وجل يراقب جميع تصرفاته في السر والعلن، فإذا تيقن العبد من مراقبة الله له فسوف يعمل على الالتزام بجميع الوصايا والأوامر الخاصة به. والتقوى محلها القلب، فقد أشار سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى قلبه، وقال: “التقوى ها هنا” (ثلاثًا)، فلا مجال للرياء، والتظاهر.
منزلة تقوي الله
جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "خرج ثلاثة نفر يمشون، فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل، فانحطّت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه.
فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى، ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلالب، فآتي به أبويّ فيشربان، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة، فجئت فإذا هما نائمان، قال: فكرهتُ أن أوقظهما، والصبية يتضاغون عند رجليّ، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما، حتى طلع الفجر، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجةً نرى منها السماء، قال: ففرج عنهم.
وقال الآخر: اللهمَّ إن كنت تعلم أني كنت أحبُّ امرأةً من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيتُ فيها حتى جمعتُها، فلما قعدتُ بين رجليها قالت: اتَّقِ الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه، فقمتُ تركتُها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاءَ وجهك فافرج عنا فرجةً، قال ففرج عنهم الثلثين.
وقال الآخر: اللهم إنك كنت تعلم أني استأجرتُ أجيرًا بفرق من ذرة فأعطيته، وأبى ذاك أن يأخذ، فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، حتى شريت منه بقرًا وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبدالله أعطني حقي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما استهزئ بك، ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فكشف عنهم".
التقيُّ لا يخسر أبدًا، ولا يكابد مشاق الدنيا، كغيره ممن لا يجتنب المشتبهات، التي حذر منها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بله المحارم والخطايا، والذنوب، إلا اللمم.