رئيس التحرير
عصام كامل

إدارة البيئة الصفية.. فن التوجيه وعلم القيادة (2)

عزيزى القارئ تناولنا فى المقال السابق موضوع الإدارة الصفية، وكيف يمكن للمعلم تطويرها ليصل بها إلى مراحل التوجيه والقيادة والإلهام لطلابه، وكنا قد عرضنا تعريفها، وأهميتها، وأهم مهاراتها، والشروط المؤثرة فيها، والنظريات المفسرة لها، كما عرضنا لبعض المشكلات الوارد حدوثها أثناء إدارة المعلم للصف، وكيف يمكن له التغلب عليها.


ومما لا شك فيه أن المعلم لكى يدير البيئة الصفية بفاعلية فى ظل عصر الانفجار المعرفى الذى نعيشه، والتقدم التقنى المتسارع، عليه أن يواجه العديد من التحديات؛ فهو فى حاجة إلى تبنى ثقافة التطوير المستمر كأهم دعائم التنمية المهنية، كما يحتاج إلى بناء الصلات والعلاقات الإيجابية القائمة على الحب والاحترام والتقدير بينه وبين طلابه..

 

وأن يستوعبهم ويهتم بهم، وأن يمنحهم الثقة بأنفسهم، وأن يساعدهم على التكيف داخل الصف، فمهما هيأت المدرسة من وسائل وإمكانات، ومهما استعانت بالخبراء التربويين، يبقى توفير المناخ الوجدانى والاجتماعى الداعم والآمن للطلاب داخل غرفة الصف الدراسى سر نجاح العملية التعليمية فى تحقيق أهدافها المطلوبة.


ومن الأسئلة التى ترتبط بإدارة الصف وعلينا أن نفكر فيها معا: هل كل سلوك سلبى يقوم به الطلاب يجب أن يتعامل معه المعلم على أساس أنه مشكلة يجب معالجتها؟ الإجابة: بالتأكيد كلا، فهناك سلوكيات روتينية للطلاب يتوقف الحكم عليها بناء على درجة حدتها، وخطورتها، ومدى تكرارها.


سؤال آخر: لماذا يقاوم بعض الطلاب القواعد المتفق عليها لإدارة الصف؟ بعد تفكير وبحث سنصل إلى أن الطلاب يقاومون إدارة الصف لأسباب متعددة، منها ما هو مرتبط بشخصيتهم، مثل: الشعور بعدم الأمان، وعدم الثقة، والحاجة إلى إظهار القوة، وتجنب الفشل، ومحاولة التعبير عن الذات، وإثبات الوجود، وإثارة اهتمام المعلم والزملاء، وعدم وضوح الرؤية بأهمية احترام قواعد إدارة الصف، وعدم انسجام قواعد إدارة الصف مع طبيعة المرحلة العمرية للطلاب ومتطلباتها وخصائصها، أو ضعف القدرة على الانتباه والتحصيل.


ومن الأسباب ما هو مرتبط بالمعلم والمناخ الصفى التنافسى العدوانى، مثل: ديكتاتورية المعلم، وعدم سماحه للطلاب بالمشاركة فى تحمل مسئولية إدارة الصف، واستخدامه الصوت المرتفع والصراخ، والإكثار من الوعيد والتهديد، وتمييزه فى المعاملة لطالب أو لمجموعة معينة من الطلاب، أو عدم تخطيطه للدرس، وضعف تمكنه من المادة التعليمية مما يشكل صعوبة لدى الطلاب فى تحصيلها والاهتمام بها، فتتسلل الفوضى رويدا إلى غرفة الصف، وعلينا ألا نغفل ظروف الطالب الأسرية والممارسات السلوكية السائدة فى المنزل، فهى تنعكس بصورة أو بأخرى على سلوكيات الطلاب داخل المدرسة والصف.

خطورة التعلم بالنمذجة


ومن أساليب الإدارة الصفية الفاعلة النمذجة، فجميعنا يذكر المقولة الشائعة "من شابه أباه أو معلمه ما ظلم"، حيث يتعلم الأطفال -سواء بشكل مقصود أو غير مقصود- عددًا كبيرًا جدا من سلوكياتهم عبر تقليد الآخرين المحيطين بهم، لذلك ظهر التعليم بالنمذجة، عبر ملاحظة الأطفال نموذج معين ثم محاكاة أداءه وسلوكه، وقد يكون النموذج الذى يقلده الطفل أحد الراشدين كالأب أو الأم أو المعلم، وقد يكون أحد أقرانه سواء فى المدرسة أو خارجها.


ويعد أثر التعليم بالنمذجة والتقليد قويا جدا ويستمر لفترات زمنية طويلة، وتشير نتائج بعض الدراسات فى هذا المجال إلى أن كثيرًا من الآباء يربون أبناءهم بالطريقة التى تربوا بها عندما كانوا أطفالا، أي أنهم يحاكون ممارسات آبائهم فى التربية والتى لاحظوها قبل فترة زمنية طويلة جدًا..

 

أيضًا هناك مؤشرات تدل على أن كثيرًا من المعلمين يعلمون طلابهم بالطريقة التى تعلموا من خلالها عندما كانوا صغارا، أي أنهم يحاكون ممارسات معلميهم التى لاحظوها قبل فترة زمنية طويلة، ومن المعروف أيضًا أن التعليم بالنمذجة يشمل السلوكيات البسيطة والمعقدة على السواء، فالطفل قد يتعلم عبر النمذجة طريقة معينة فى الأكل والشرب، أو فى الجلوس على الكرسى، كما قد يكتسب أيضًا قيمه، ويطور اتجاهاته.


وتكمن خطورة التعلم بالنمذجة في أنه لا يقتصر على تعلم السلوكيات المقبولة فقط، وإنما قد يتعلم الطفل بعض السلوكيات غير المقبولة، فبالنمذجة يتعلم الأطفال الصدق، تمامًا مثلما يتعلمون سلوك الكذب، فالطفل الذى يسمع والده أو معلمه وهو يتحدث عبر الهاتف ليلغى موعدًا مع صديقه معتذرًا بعذر حقيقى واقعى، سيتعلم عكس ما سيتعلمه طفل آخر يسمع والده أو معلمه وهو يختلق عذرًا زائفًا لإلغاء موعد مع أحد أصدقائه.


ومن المفيد هنا الإشارة إلى أهمية اعتبار المعلم نموذجًا مهمًا يقتدى الطلاب بسلوكه، خاصة فى مراحل التعلم الأولى، ويلاحظ الآباء ذلك بشكل واضح، حيث يصعب عليهم إقناع أبنائهم بخطأ معلومة ما إذا كانوا قد سمعوا عنها أو تعلموها من معلميهم.. 

أسلوب إدارة المعلمين للصف

ومن الأمثلة التى تؤكد صدق هذا الاعتقاد، أن الطلاب يتعلمون بشكل ضمنى من المعلم ما يلى: عدم احترام الوقت، عندما يلاحظون معلمهم وهو يتأخر عن موعد بداية الحصة. والعنف، عندما يلاحظون المعلم يحل المشكلات معهم بطريقة عنيفة. ولفظ إحدى الكلمات العربية أو الإنجليزية بشكل غير صحيح، عندما يسمعون المعلم يلفظها بتلك الطريقة.


كما أن الطلاب يتعلمون بشكل ضمنى من المعلم التدخين، وهم يرون أحد معلميهم يدخن. وعدم الاكتراث والاهتمام بالدرس، عندما يلاحظون علامات عدم الاهتمام ظاهرة على المعلم، فارتفاع الدافعية وانخفاضها ينتقل بالعدوى من المعلم للطلاب، (كيف يمكن للمعلم أن يلوم الطلاب على عدم التحضير المسبق للدرس وهو نفسه لم يقم بذلك؟).


وعدم احترام أحد المعلمين، عندما يسمعون معلمًا آخر يسخر منه، ويتحدث عنه بطريقة غير لائقة. والعناد والتعصب، عندما يلاحظون معلمهم يرفض التراجع عن رأيه الذى ثبت أنه غير صحيح. والكتابة غير المنظمة، عندما يلاحظون كتابة معلمهم غير المنظمة على السبورة.


أن ما نود التأكيد عليه هو وجود رسائل ضمنية مستقاة من المحيط الاجتماعى والثقافى لبيئة التعلم، تصل إلى المتعلمين داخل غرفة الصف، وتترك عندهم انطباعات ذات قيمة، وترسخ فيهم أفكار واتجاهات وقيم، ونستنتج من ذلك أن السياق التعليمى المتمثل في ممارسات المعلمين التى تحدث ضمن استراتيجيات وطرق التدريس، وأثناء الاختبارات وتنظيم الأنشطة والمسابقات، ونمط العلاقات الاجتماعية السائد بينهم وبين طلابهم، وبين الطلاب أنفسهم داخل غرفة الصف.. 

 

والذى لا يرتبط بمادة دراسية بعينها، يكون ذا أهمية تربوية بالغة، وله تأثير قوى فى توجيه سلوك الطلاب وتشكيل وجدانهم، وقيمهم، ومعتقداتهم واتجاهاتهم، مما يستلزم درجة عالية من الوعى لدى المعلمين، بأن كل فكرة أو ممارسة يقومون بها يمكن أن تؤثر تأثيرا بالغًا فى سلوك الطلاب وشخصياتهم.


أن المعلمين الذين يمتلكون (سلطات المعرفة، والالتزام، والتفاعل، وتوفير المناخ الوجدانى والاجتماعى، والقواعد الصفية)، يؤثرون على الطلاب بشكل إيجابى، ويحصلون على تعاونهم بشكل أفضل، فى المقابل فإن المعلم الذى يستخدم سلطة القوة ليضبط سلوك الطلاب، ويجبرهم على القيام بالأشياء بدلًا من الحصول على تعاونهم، سوف يدفعهم للاستجابة الوقتية فقط وبدافع غير ذاتى.. 

 

ومقصد الحديث هنا أن المعرفة التى يتعلمها الطلاب داخل المدرسة ليست هى المسئولة وحدها عن نجاح الطلاب وإعدادهم للحياة فى المستقبل، ولكن يجب أن يتوفر بجانبها أفكار ومهارات وقيم واتجاهات يكتسبها الطلاب من السياق التعليمى وأسلوب إدارة المعلمين للصف.

 


وبناء على ما سبق يمكن لنا أن نطلق مصطلح المنهج الضمنى أو الخفى على مكونات الإدارة الصفية، فأفكار المعلمين واتجاهاتهم حول التدريس وإدارة البيئة الصفية، قد تكونت لديهم ضمنيا عبر مشاركتهم فى الطقوس المدرسية، ومعايشتهم لنوعية التفاعل ولثقافة التعلم السائدة فى المدرسة كنظام مؤسسى، كل ذلك يؤثر ضمنيا أيضًا وبشكل خفى فى الطلاب عقليا ووجدانيا واجتماعيا، ويحدد لهم أنماط السلوك المقبول المراد الالتزام به، وبالتالى يؤهلهم لمواجهة الحياة بطريقة عملية، ويعمل على تقليل الفجوة بين المواد النظرية التى يدرسونها، وبين تطبيقاتها فى المواقف الحياتية المعاشة.

الجريدة الرسمية