رائحة الأمهات!
في كل عام يذكرنا العالم بأن هناك اختراعا إنسانيا جميل اسمه عيد الأم وكأننا نحتاجه كل عام مرة لنجدد الإحساس بالأمومة، وكأن الأمومة إحساس يمكن أن يغيب، أو دافع يمكن أن ينطفئ، أو رغبة يمكن أن تموت.. فقد كتبت في مقالة سابقة عن الأمومة وكيف أن مشاعرنا نحوها مخلوقة وليست مكتسبة، فهي مشاعر لا تصنعها المواقف والمصالح، بل تصنعها طبيعة التكوين والفطرة الإنسانية السليمة.. والدليل على ذلك أن الذين يفتقدون القدرة على التفكير والتدبير والاستنباط والاستنتاج لا يفقدون مشاعرهم الفطرية تجاه الأم..
ففي التجارب التي أجراها علماء النفس لاختبار العوامل التى تربط الإنسان بأمه.. أحضروا ثلاثة هياكل رمزية لأمهات الشمبانزي.. ووضعوا في الهيكل الأول ضِرعًا به لبن يشبه إلى حد كبير صدر الأم. ووضعوا في الهيكل الثاني صوت دافئ يحمل إلى حدٍ كبير بعضا من حنان الأم.. بينما وضعوا في الهيكل الثالث قلبًا ينبض بانتظام لا يختلف أبدًا عن دقات قلب الإنسان.. وأحضروا شمبانزي صغيرًا وعرضوه لصدمات كهربائية مرعبة.
لاختبار إلى أي هيكل سوف يلجأ طفل الشمبانزي حين يشعر بالخوف وعدم الأمان والتهديد بفقدان الحياة. فهل يلجأ صدر الأم الذى يعبر عن العلاقة النفعية التي تربط الطفل بأمه والتي يشعر فيه بأن صدرها هو مصدر الحياة.. أم يلجأ إلى صوت الأم المليء بالدفء والحنان والذى يعبر عن الوّنس الاجتماعي والقوة إذا لزم الأمر.. ام إنه سوف يلجأ إلى القلب النابض الذى يشعر فيه الطفل برائحة الأم حتى وأن كانت في هيكل عظمي ليس فيه حياة "..
وفى كل مرة تعرض فيها طفل الشمبانزي وجدوه يفر مهرولًا إلى حضن الأم الذى يخبئ بداخله القلب النابض وكأنه يحتمي في دقاته الموسيقية المنتظمة، حتى وإن كان خاليًا من الطعام والقوة.. ولكن به القلب الذى اعتاد الطفل على سماعه تسعة أشهرٍ، داخل غرفة ظلماء كانت تشكل بالنسبة له الحياة الكاملة!
رائحة الحياة
يبدو أن لرائحة الأم تأثيرًا أقوى من قدرة العقل على التفكير، وأكبر من قدرته على استنباط الحقائق والأفكار وترتيب المشاعر.. تأثير لا يضعف مع الزمن بل يزداد قوة وتأثيرًا حتى بعد الموت.. وفي إحدى المصحات العقلية كتبَ مريضٌ لأُمه رسالة خطية، قال لها فيها: مساء الخير يا أمي... إنهم في المصحة لا يضعون لي الملح في الطعام، ولا يسمحون لي بفتح النوافذ، لم أعد أحتملُ كل هذه القسوةِ في المعاملة، أنا فقط أريد رائحتكِ في وسادتي بدلًا من الأدوية!
يعدونني بعدَ كل نوبةٍ أنك ستأتينَ غدًا، وفي كل غدٍ أكون وحدي.. أعلمُ أنني أتعبتك معي كثيرًا، وأنّ البيتَ أصبح هادئًا بدوني، حتى الأبواب لم تعد تغلق بإحكام، والجيران لا يشتكون أصواتي الصاخبة، وأنَّ الصحون رغم ضعفها باتت تعمّر طويلًا.. لكنني أنا ابنك الذي يموتُ هنا.. ولا يحتاج سوى قليل من الملح في طعامه، أو بعضًا من رائحتك كي يعيش!
رائحة الموت
من أعنف ما كُتبَ في الأدب الروسي حكاية الزوج الشاب الذى داهمه الموت كعادته بالبشر يأتي دون سابقة إنذار، ودون أن يمهل صاحبه بعضًا من الوقت لترتيب أوضاعه، والتخلص من الأشياء التى ربما تقلقه بعد الموت – حسب ظنه - وخاصة الأشياء المتعلقة بمستقبل الأولاد ومشاكل الزوجة التى ربما لا تنتهي..
وكتب من داخل مقبرته رسالة قال فيها: لقد توفيت منذ دقيقتين.. وجدت نفسي هُنا وحدي معي مجموعة من الملائكة، وآخرين لا أعرف ما هم، توسلت بهم أن يعيدونني إلى الحياة، من أجل زوجتي التي لا تزال صغيرة وولدي الذي لم يرَ النور بعد، لقد كانت زوجتي حامل في شهرها الثالث، مرت عدة دقائق اخرى، جاء أحد الملائكة يحمل شيء يشبه شاشة التلفاز أخبرني أن التوقيت بين الدُنيا والآخرة يختلف كثيرًا، الدقائق هُنا تعادل الكثير من الأيام هناك.
"تستطيع أن تطمئن عليهم من هنا".
قام بتشغيل الشاشة فظهرت زوجتي مباشرةً تحمل طفلًا صغيرًا! الصورة كانت مسرعة جدًا، الزمن كان يتغير كل دقيقة، كان ابني يكبر ويكبر، وكل شيء يتغير، غيرت زوجتي الأثاث، استطاعت أن تحصل على مرتبي التقاعدي، دخل ابني للمدرسة، تزوج اخوتي الواحد تلو الآخر، أصبح للجميع حياته الخاصة، مرت الكثير من الحوادث، وفي زحمة الحركة والصورة المشوشة، لاحظت شيئًا ثابتًا في الخلف، يبدو كالظل الأسود..
مرت دقائق كثيرة، ولا يزال الظل ذاته في جميع الصور، كانت تمر هنالك السنوات، كان الظل يصغر، ويخفت، ناديت على أحد الملائكة، توسلته أن يقرب لي هذا الظل حتى اراه جيدًا، لقد كان ملاكا عطوفًا، لم يقم فقط بتقريب الصورة، بل عرض المشهد بذات التوقيت الأرضي، ولا أزال هُنا قابعًا في مكاني، منذ خمسة عشر عام، أُشاهد هذا الظل يبكي فأبكي، لم يكن هذا الظل سوى أمي..
فيبدو أنه لم ير صورة أمه بل شم رائحتها في كل حدث.. فدموعها لم تجف مع طول فترة الرحيل.. وظلت تترقب أحداث رائحته عن قرب وفى سكات حزين.. لم يرى صاحبنا صورتها في الشاشة ولكن رائحتها كانت لديه أقوى من الحدث كما كانت أقوى من الزمن!
رائحة الخبز
فلا أنسى أبدا حين جاءت أمي من الصعيد لزيارتي في القاهرة.. وفى جلسة دافئة كالعادة قالت.. هل تذكر كيف كان طعم خبزي حين كنت شابة عفيّة.. نظرتها لها في تعجب وقلت: ربما لم أذكر طعم الخبز فقد جعلتني الأطعمة الجديدة بالتي جاءت بعده قدرًا كبيرًا من طعمه.. لكنني حتمًا لم أنس أبدًا يا أمي رائحة الخبز.. فقالت أمي: أعرف أنك كنت دائمًا تفضل البعد رغم أنك القريب..
قلت لها: هذه دعوتك منذ كنت صغيرًا بألا يكتب الله لي عيشًا بالصعيد. وأنا هنا أنفذ قدر الله الذى استجاب لدعوتك.. قالت كنت أخاف عليك من حريتك وعقلك الذى كان يسبق الزمن الذى كنا نعيش فيه.. فقلت لها: وأنا هنا ليس سوى دعوتك. فلما إذًا تتعجبين يا أمي.. قالت: لم أكن أتخيل أن الله سوف يستجيب دعوتي وأنا على قيد الحياة، ويمتد عمري ونعيش غريبين فى الحياة، أنا الأن أعيش فقط على رائحة فراشك التى لم تذبل منذ رحت عن الصعيد.. فقلت لها باكيًا.. وأنا الآن أعيش فى العاصمة على رائحة خبزك التى لا تغيب!