رئيس التحرير
عصام كامل

لماذا يحقد السلفيون على المتصوفين؟!

وسط دياجير العتمة التي نرزح في وطأتها، من جراء الغلاء الفاحش، ذلك البلاء المطبق الذي يعتصر المصريين.. حدثت مفاجأة أسعدتني؛ تراجع كثيرون ممن كانوا ينتمون إلى ما يسمى بـ "السلفية" عن تفكيرهم، وبدأوا في إعادة النظر في معتقداتهم، والاقتراب من فكر الاعتدال.
المفرح أكثر أنهم بدأوا يغبطون الصوفية والمتصوفين، في حبهم لبعضهم، واحترام المريدين لمشايخهم، وحنو الكبار على الصغار.. أتباع السلفية يعانون بشدة من عدم الاحترام، فأخلاق الإسلام لديهم مجرد كلام يقرأونه ويدرسونه، ويتدارسونه، ولكنه لا يتجاوز حناجرهم.. أقوال لا أفعال.
إذا اختلف الشيخُ مع التلميذ، عند السلفية، تحولت العلاقة إلى النقيض.. منتهى القبح.. انتقاداتٌ حادة.. فضحٌ للعيوب، وكشفٌ للأسرار، وهتكٌ للأعراض.. وإساءاتٌ متبادلة، ونكرانٌ للجمائل، ونسيانٌ للمحامد.. كلٌ منهما يدير ظهره للآخر، كما يقول المثل العربي: "قَلَبَ له ظَهْرَ المِجَن".
في الصوفية، ثمَّ احترامٌ متبادل، وتراحمٌ، بين الصغير والكبير، بين الشيخ والمريد، بين التلميذ والأستاذ، بين الأخ وأخيه في الله.. علاقة قائمة على المودة، والحب، والتسامح.. الإيثار لا يعرفه إلا هم، يطبقونه كما أوصى به رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يعودون بك إلى عهد الرعيل الأول من المسلمين، فجر الإسلام، حيث التآخي بين المهاجرين والأنصار، والمواقف الرائعة التي واكبت تلك الفترة الزاهرة.
ما زلنا نتخيل الأُخوة بين المسلمين الأوائل، والتي برزت في أسمى معانيها لدى الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة، وعندها عرض أحدهم على عبد الرحمن بن عوف، أن يقتسم معه ماله، وأن يطلق إحدى زوجتيه من أجل أن يتزوجها !! (يا الله؛ هل في الوجود مثل تلك المشاعر؟!)، فيرفض عبد الرحمن، ويصر على أن يمارس هوايته بالتجارة في السوق، إلى أن صار من أغنى أغنياء عصره.. بين المتصوفين يحدث مثل تلك الوقائع.
لكن الصوفية لا يتكلفون ذلك، ولا يراءون، ولا ينافقون، بل تلك هي طبائعُهم، وصفاتُهم التي جُبِلوا عليها.. هذا الحبُّ، والتسامحُ، والإيثارُ، والتواضعُ، جزءٌ من شخصية الصوفي، ولا يتصنَّعه.

الصوفي والسلفي

الصوفي قبل أن يسلك الطريقَ شيءٌ.. وبعد أن يعاهد شيخه شيءٌ آخر.. يتغير 180 درجة.. بل تشعر وكأنه نفض يده من الدنيا.. وزهد في ملذاتها، وهجر شهواتها، وانكب على خدمة إخوانه، ومساعدتهم، وبذل الغالي والنفيس، والتضحية من أجلهم.


تبجيل الشيخ، والذي قد يصل أحيانًا إلى درجة التقديس، صوَّب السلفية سهامهم نحوه كثيرًا، ثم عادوا وأخذوا يحسدون المتصوفين عليه! طريق التصوف يهتم، في الأساس، بالأخلاق، فيزكيها، وينقيها من الشوائب والأدران؛ حتى أنني تساءلت كثيرًا؛ لماذا لا يتم تدريس التصوف في الجامعات، والمعاهد المتخصصة تحت فرع الأخلاق، وضمن تلك المادة؟! لماذا يتمسكون بتدريسه ضمن الفلسفة؟! 

 

هذا التصنيفُ أضَرَّ للغاية بالتصوف كفكرٍ وسلوكٍ، وجعله عرضةً لسهام النقد تُوَجَهُ إليه من كل حدبٍ وصوبٍ، ومن كل حاقدٍ وحاسدٍ.. أول ما يهتم الشيخ بترسيخه لدى المريد هو الزهد، والورع.. الزهد في متاع الدنيا، والورع عن الاستغراق في المتع والملذات حنى لو كانت حلالا.. وحب الآخرين، والتواضع مع كل العباد، التواضع لدرجة يعتقد البعض، ممن عميت بصائرهم، أنه ضعف.


المتصوفون يسمون أنفسهم فقراء.. لا يستنكفون أن يناديهم الناس بهذا اللقب.. هم يحققون عمليًّا، قول سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه البخاري).. فالدين لديهم ليس مجرد مظاهر شكلية، وإطلاق لحى، وتقصير ثياب.. لكنه جهد وعمل، ومغالبة للنفس، وقيام الليل، وصدقات مخفية، يقدمونها في السرِّ، لا تعلم شمائلهم ما أنفقت أيمانهم. 


الوضع لدى السلفية، يمثل النقيض، فهم يتعاملون مع الدين على أنه مجرد عبادات، تحولت إلى عاداتٍ.. مظاهر.. شكلياتٍ.. يكفي للواحد منهم أن يلقي في خانة الحسنات بضعة أذكار وآيات وركعات، معتقدًا أنه بذلك سيدخل الجنة من أوسع أبوابها، وأن الله سيفضله على سائر خلقه، وينسى أن كل الأعمال بين الرد والقبول، إلا الصلاة على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.

 لاننكر أن الذكر وتلاوة القرآن الكريم، والصلاة، فروضاً ونوافل، مهمة، بل وضرورة حتمية، ولكن يجب أن تكون النوايا خالصة لله، والعبادات خالية من الشوائب، وصافية من الرياء.


السلفيون لا يشغلهم سوى الشهوات؛ المال، الأكل، النساء.. وهذا بالتحديد ما يتورع فيه المتصوفون.. أي يعملون قدر جهدهم على التقليل من حظهم منه.. هذا ما حاولنا به تلخيص الموقفين، مقارنة بسيطة؛ علها تعبر بصدق عن الفوارق الهائلة، والجوهرية بين الفئتين.. فئة تحلق في السماء، وأخرى تزحف تحت الأرض.

الجريدة الرسمية