التعايش السلمي بين الأديان.. يعرّي الديمقراطيات الغربية
رغم مضي بعض الوقت على حادثة حرق القرآن الكريم، لا يزال صدى هذا الأمر مستمرًا، ليس فقط لدى الشعوب والحكومات المسلمة، بل لدى الدول التي تضم أديان مختلفة على أراضيها، والتي اهتمت بهذا الحدث لما له من أهمية في مجال التعايش بين الأديان والاحترام المتبادل.
على سبيل المثال، في 9 فبراير 2023، عُقدت مائدة مستديرة في عاصمة قيرغيزستان، بشكيك: بعنوان "الحوار والتفاعل بين الأديان في تعزيز الاحترام المتبادل"، نظمها مركز الأبحاث التحليلية المستقلة "الدين والقانون والسياسة" بتوجيه متخصص في الشريعة والشريعة الإسلامية، أستاذ في الأكاديمية الدبلوماسية بوزارة الخارجية ك. قدير أزهي مالكوف، في خطوة تعكس مدى الاهتمام بهذا الأمر والحد منه والتقليل من تداعياته خاصة للمسلمين الذين يعيشون خارج بلادهم الإسلامية.
وقد يبدو أن هذا الحدث بالشكل العام ظاهرة طبيعية وأقل ما يمكن القيام به، لكن في دول القوقاز له أهمية رمزية كبيرة، وتفلت هذا الأمر قد يكون له ارتدادات لا أحد يرغب بحدوثها، فجاء الحدث بهدف ضرورة توضيح الموقف حول استفزاز المتطرفين الأوروبيين، وحرق القرآن الكريم بما يمس مشاعر جميع المسلمين، على خلفية الاستفزاز في ستوكهولم أمام السفارة التركية، عندما قام المتطرف اليميني المعروف والمحرض راسموس بالودن بحرق القرآن علانية، وعلى مرأى من الجميع، بالتالي، لم يتم اختيار مكان التجمع بالقرب من السفارة التركية عن طريق الصدفة، لأنه خلال الحدث كانت هناك اتهامات ضد السلطات التركية.
المتطرفان السويدى والهولندى
بالتالي، وبتحليل بسيط، ليس من قبيل الاستنباط أن يتم ربط الرفض التركي دخول السويد للناتو، بمسألة حرق القرآن الكريم، ومن المعروف أن تركيا حددت شروطًا لمنح موافقتها على عضوية السويد داخل الحلف، وأصرت عليها ولسنا هنا في صدد شرحها، لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -وبصرف النظر عن سياسته الخارجية والداخلية- لكنه في مرحلة ما تصدر العالم الإسلامي..
وأصبح زعيمًا للمسلمين داخل وخارج تركيا، فجاء موقف المتطرف السويدي الذي نفذ الفعل الشائن، بضرب صميم رمزية أردوغان لدى أتباعه ما خلق توترًا كبيرًا إن لم يتم ضبطه قد يتحول إلى صراع مذهبي خارج أسوار الدول المسلمة.
وبناءً على ذلك، هذا النهج الاسكندنافي للسويديين أعاد إحياء أنشطة المناهضين للإسلاميين في أوروبا، في أعقاب تحركات بالودان في ستوكهولم، وتصرف السياسي الهولندي، إدوين فاجنسفيلد، الذي مزّق القرآن أمام مبنى البرلمان في لاهاي، وفي هذا تحدٍّ صارخ للمسلمين..
ومن المعروف أيضًا أن أوروبا التي طالتها يد الإرهاب بطريقة أو بأخرى من خلال حوادث كثيرة حدثت في العقد الأخير خاصة بعد ما يسمى الربيع العربي، من حوادث دهس وطعن وتفجيرات واغتيالات وغير ذلك، فتحريك هذا الملف مجددًا في قلب القارة العجوز لن يكون لصالحها، وهي التي اختبرت عشرات الحوادث الإرهابية، ومن غير المعروف إن عاد هذا الأمر كيف ستتصرف إزائه في ظل تطور الحركات الإرهابية التي اكتسبت خبرات كبيرة من ساحات الاقتتال في عدد من الدول العربية والإسلامية.
في هذه الحالة، من المهم أن تكون الحكومة السويدية على علم باقتراب حرق القرآن ولم تتدخل فيه بأي شكل من الأشكال، كما أنها أصدرت الإذن رسميًا بهذا الحدث، وهنا ممكن الخطر.. فبعد أسبوع بالضبط كرر بالودان عمله التخريبي السياسي، وأحرق القرآن في مسجد في كوبنهاغن، بعد أن منحته السلطات الدنماركية أيضًا إذنًا رسميًا لعقد حدث عام، تحت ذريعة حرية التعبير والرأي.
حرق القرآن والرد التركي
بالتالي، الزعيم الوحيد من الدول الإسلامية الذي انتقد بشكل صريح وحاد تصرفات المتطرف وموقف القيادة السياسية للسويد كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي قال إنه "لا يحق لأحد أن يهين المسلمين المقدسين أو أتباع الديانات والمعتقدات الأخرى، العمل القبيح في السويد هو إهانة لأي شخص يحترم الحقوق والحريات الأساسية للناس، وخاصة المسلمين"، وقال الرئيس التركي أيضًا: "أولئك الذين قاموا بمثل هذا العار أمام سفارة بلادنا لم يعد بإمكانهم توقع الموافقة على طلباتهم لعضوية الناتو".
الرد التركي ظاهريًا يبين أنه جاء كرد على حرق وتمزيق القرآن، لكن بالتدقيق جيدًا، استثمرت أنقرة هذا الحدث وحولته لصالحها سياسيًا، من خلال رفض الطلب السويدي لدخول الناتو، لكن الغاية الأهم هي أن تركيا تريد القيادات الكردية الموجودة في السويد، ولن تتنازل عن ذلك، فإن أعادتهم الحكومة السويدية ورضخت للشروط التركية سنشهد دون أدنى شك تحولًا كبيرًا في موقف أردوغان وحكومته، وهو الذي عودنا على استثمار كل حدث والتراجع عن أي موقف طالما يحقق الأهداف والمطامح والمصالح التركية.
ورغم أن الاستفزاز بحرق القرآن، أدى بطبيعة الحال إلى تعقيد العلاقات بين ستوكهولم وأنقرة بشكل خطير، ستصبح هذه الحقيقة حجر عثرة أمام تساؤلات انضمام السويد إلى الناتو، لأنه بدون موافقة أنقرة، لن تتمكن المملكة الاسكندنافية من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
وجدير بالذكر أن توسيع الكتلة يتطلب موافقة جميع أعضائها الحاليين، وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن المجر هي الوحيدة التي دعمت موقف تركيا بشأن الحقيقة الاستفزازية، والتي، بالمناسبة، لم توافق بعد على انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو.
وبالعودة قليلًا بالتاريخ، من المعروف أن هذا ليس أول أداء للمتطرفين الغربيين ضد الإسلام في الدول الأوروبية، المسلمون دائمًا حساسون جدًا لمثل هذه الإهانات، هنا نستذكر الفضيحة مع مجلة شارلي إبدو الفرنسية، والتي أدت إلى سقوط العديد من الضحايا بسبب الرسومات المسيئة للنبي محمد (ص).
زرع الكراهية
بالتالي، تسقط الديمقراطية وحرية التعبير والرأي التي يتبجح بها الغرب أمام همجية وتصرفات البعض المتطرف، في أوروبا ما يعكس حقيقة الحالة الهمجية المسيطرة وربما الغالبة لكنها دفينة شعارات وخطابات برّاقة لا تعكس إلا الحقد على المسلمين والإسلام، وتهدف إلى إثارة الكراهية بين الأديان، وإهانة مشاعر المؤمنين – المسلمين.
لقد أصبحت السياسة المتساهلة للسلطات الأوروبية، التي أدت إلى العمل البغيض المتمثل في حرق القرآن، طريقًا مباشرًا لتدمير ديمقراطيتها، وتشهد على مستوى الإسلاموفوبيا والعنصرية والتمييز في أوروبا، في جوهرها، هذه مظاهر جديدة للموقف الاحتقار للدول الغربية تجاه الإسلام، الذي يعد ثاني أكبر ديانة في العالم من حيث عدد المسلمين، ما يقرب من 1.9 مليار شخص.
كما أن مثل هذه الأعمال العدوانية ضد الرموز الدينية الإسلامية بهدف زرع الكراهية بين الطوائف والأعراق وهذا أمر لا يمكن حدوثه في قيرغيزستان، بناءً على الخصائص الدينية والثقافية والوطنية التي تتمتع بها البلاد، حيث تنفذ الدولة سياستها في شكل احترام القيم الأخلاقية التقليدية، وتخلق الظروف للحفاظ على الإمكانات الروحية والتراث الثقافي لشعب قيرغيزستان وتنميتها، وتتخذ الدولة، التي تمثلها الهيئة المسؤولة في اللجنة، في إطار تشريعات جمهورية قيرغيزستان، تدابير لمنع أي نزاعات على أسس دينية أو أفكار هدامة أو كراهية دينية.
ففي كل البلاد يجب أن يكون الهدف الحقيقي للتعايش احترام الكتب المقدسة والمقدسات لكل الأديان، للعيش الكريم بين مختلف الثقافات والشعوب والأديان، ولعل قيرغيزستان خير دليل على تطويرها للنموذج الأمثل للتعايش السلمي والمتسامح.