رئيس التحرير
عصام كامل

اغتيال متحف

ترددت كثيرا قبل أن أكتب هذا المقال ليس لأن موضوعه من تلك النوعية التي يمكن تأجيلها ولكن لشك مقيم في أن يجد آذانا صاغية وسط هذا الركام من الأحداث الجسام التي تمر بها مصر وترهل الاهتمام بأمور الثقافة جلها.. ما أتحدث عنه هو متحف بورسعيد القومي أحد أقدم وأهم متاحفنا الإقليمية وهو من أقدمها نشأة وأكثرها دخلا عندما كان على قيد الحياة.


سبق وأن طالبت بأن تتم إعادة بناء متحف بورسعيد القومي على كامل مساحته وفي نفس موقعه عند المدخل الشمالي لقناة السويس وذلك بعد أن أوقفت أحداث يناير عملية البناء التي كانت قد استكملت أشراطها القانونية بعد هدم المبنى القديم لخطأ تشييدي لا يمكن تداركه.


طالبت بذلك في مواجهة اقتراح بأن تستولي شركة استثمارية مصرية مشهورة في مجال العقارات على أرضه لتقيم أبراج سكنية وتجارية لقاء أن تشيد على نفقتها مباني لمتحف على مساحة 2000م2 وكان الاعتراض على أن مساحة المتحف الخاصة به قانونيا هي 11 ألف متر مربع ولا يمكن حشر مقتنياته المخزنة في أحد مخازن هيئة الآثار وعددها بالآلاف في تلك المساحة القزمية خاصة وأن الحديث كان عن إجمالي مساحة على طابقين أي أن نصيب المتحف سيكون أقل من 10% من مساحته القانونية.


شهدت الأشهر التالية لإثارة الموضوع كلاما وتصريحات من مسئولين بمحافظة بورسعيد وكذلك من هيئة الآثار بأن المتحف سيكون مقره مبنى القبة الخاص ب هيئة قناة السويس وهو مبنى مسجل أثريا وحالته الإنشائية تحتاج لتكلفة كبيرة لتأهيله كمتحف لاسيما وأنه مشيد على جدران حاملة ولديه ما يكفي من المشاكل الإنشائية.

متحف بورسعيد ورأى هيئة الأثار


ثم وقبل نحو شهر ونيف ظهرت لافتات تحيط بأرض المتحف عليها إعلان لشركة فنادق عالمية ومعها اسم هيئة قناة السويس ومحافظة بورسعيد وصور لأبراج سكنية وتجارية ستشغل هذا الموقع في القريب العاجل.. التساؤلات هنا عديدة ومن قبيل الإيمان بالعدل والحق والقانون أن تطرح بكل شفافية وبدون أدنى تهيب.


التساؤل البديهي هو عن السند القانوني لهذا المشروع ولاسيما من زاوية ملكية الأرض.. فمن المعروف أن مجمل الأحد عشر ألف متر مربع تنقسم إلى ثلاثة أجزاء وهي على النحو التالي: 4200م2 بقرار تخصيص من رئيس الجمهورية لعام 1963، و5567م2 من أرض هيئة قناة السويس خصصت بقرار رئيس الوزراء رقم 1503 لانتفاع المتحف لقاء أجر رمزي. و1190م2 أرض اشترتها هيئة الآثار من القاعدة العسكرية (الطابية) عام 1992.


أعتقد أن احترام القانون وصلاحيات رئاسة الوزراء توجب إصدار قرار رئاسي بإلغاء قرار التخصيص السابق ونشره في الجريدة الرسمية ليكون ساريا وكذلك صدور قرار من رئيس الوزراء بإلغاء ايجار أرض هيئة القناة لمتحف بورسعيد القومي وزيادة على ذلك تنازل أو بيع هيئة الآثار لحصتها من أرض المتحف سواء لهيئة قناة السويس أو لمحافظة بورسعيد.


أتمنى أن يكون لدى كل الأطراف التي ذكرتها إجابة واضحة وأمينة على تلك التساؤلات علما بأن هيئة الآثار أو متحف بورسعيد لم يقوما يقينا بالبيع أو التنازل عن ملكيتهم وفيما أعلم لم ينشر قرار رئاسي بتغيير القرار الجمهوري القديم. 

 

ربما وأقول ربما أصدر رئيس الوزراء قررا بإلغاء عقد التخصيص ومن حكم في ماله فما ظلم وعهد لهيئة قناة السويس بأن تتفق مع الشركة العالمية للفنادق سواء بمزايدة أو بالأمر المباشر على هذا المشروع على مساحة 5567م2 الخاصة بها، علما بأن ذات الشركة ستحول مبنى القبة المسجل كأثر إلى فندق دون موافقة أو أخذ رأي هيئة الآثار، وهو أمر يوجبه القانون بل وأن نفس هذه الشركة تقوم بتحول منزل دليسبس بالإسماعيلية لفندق.

حقوق متحف بورسعيد القومي


لن أخوض في جدل حول أحقية هيئة قناة السويس أو تأثير مشروعها على أمن المجرى الملاحي لأركز فقط على حقوق متحف بورسعيد القومي الذي شونت مقتنياته وبقي أمناء المتحف بلا عمل فعليا رغما عن أدوارهم الريادية في برامج التربية المتحفية وعن حقيقة أنه كان ثاني أعلى المتاحف المصرية إيرادا بحكم قربه من ميناء بورسعيد.


إذا لم تكن هناك مسوغات قانونية من إلغاء رئاسي للقرار الرئاسي وتنازل من هيئة الآثار عن ملكيتها فيجب أن تستثنى أرض المتحف من هذا المشروع  احتراما لسيادة القانون وحسب. أما إذا كانت الأمور قانونية تماما وهي خفية فلتعلن لأصحاب الحق في كل شبر من تلك الأرض إذ لا معنى لإخفائها بأي ذريعة لا أمنية ولا قانونية.


ويتبقى في كل حال أمر مقتنيات متحف بورسعيد القومي وهي تفوق ليس فقط من الناحية الأثرية العلمية بل ومن الناحية المادية كل العوائد المحتملة من المشروع الذي سيطل على مجرى قناة السويس فتلك ثروة لا تقدر بمال وقد خزنت في مكان تعرض للسرقة أثناء أحداث يناير ونجت بقدر الله منها.


فإما أن يشيد المتحف وميزانيته مقدرة وعقد شركة المقاولات ساري على أرضه الثابتة له قانونا وإما أن تخصص له أرض أخرى بذات القيمة المادية لأرضه التي يجري الاستيلاء عليها "قانونيا" ذلك إن كان ما يجري أمر قانوني من بابه.


أسوأ ما في الموضوع برمته ليس أمر مدى قانونية انتزاع الأرض من متحف بورسعيد ولو على طريقة "الدفاتر دفاترنا" ولكن هذا الاضمحلال الفكري وافتقاد الخيال الاقتصادي الذي يعادي ويستخف بأمر إنشاء متحف قومي أو بالأدق إعادة تشييده فهو كيان قانوني قائم وله مقتنياته الفريدة في واحدة من أهم محافظات مصر موقعا وشهرة.


تستحق بورسعيد متحفها لأنه سيوفر عوائد مالية تبرر تكلفة إعادة البناء وسيعود ليمارس أدواره في التوعية بتاريخ مصر وتعليم الناشئة الانتماء لوطنهم والالمام بتاريخه الحضاري وانجازات أجدادهم. وليس ذلك فحسب فهذا المتحف فضلا عن أمنائه المؤهلين سيجتذب حركة سياحية ويخلق وظائف أكثر عددا واستدامة من تلك التي ستولدها أبراج سكنية وسيجنى أرباحا للخزانة العامة على مدى مستدام أضعاف تلك التي ستجنيها الخزانة العامة من مشروع الأبراج.


أخشى وذلك بمنتهى حسن النية أن يضيع قصر النظر وضيق الأفق مقتنيات متحف بورسعيد القومي في وقت تعاني فيه البلاد من نقص فادح في العملات الصعبة وفرص التوظف المستدامة، علما بأنه بقليل من التخطيط الحسن يمكن أن يكون بؤرة مشروع سياحي عملاق يتكامل فيه دوره مع متحف لفنار بورسعيد (أقدم مبنى خرساني في العالم) ومع مشروع سياحي على امتداد شارع الميناء يشمل مقاهي ومطاعم على المجرى الملاحي وإعادة تفعيل للبيت الإيطالي كمسرح ومكتبة عامة فضلا عن مشروع طموح لإعادة بناء البيوت المطلة على القناة، بذات نمطها التاريخي لتكون فنادق سياحية تخدم الحركة السياحية وتستقطبها سواء من الخارج أو الداخل وفي ذلك خدمة كبرى لمصر كلها.
هذا وقت للصدق وإعمال العقل وإلا فعلى الدنيا السلام.

الجريدة الرسمية