عندما بكت السماء فرحًا بقدوم القائد
تضخم الذات والأنا والنرجسية والتفرد بالقرار التي غالبًا ما تصيب أغلب صناع القرار في دول العالم الثالث، لا تأتي عادة من فراغ، ولكن نتيجة طبيعية لتأثير الحاشية والدائرة المحيطة من المنتفعين والمتملقين، الذين ينسجون حول القيادة سياجًا عازلًا، لا يمكنه إلا من سماع تصفيقهم وتهليلهم وثنائهم على قراراته، حتى وإن كانت خاطئة.
ففي مارس عام 2007 تلقيت دعوة خاصة لمرافقة الرئيس الليبى الراحل معمر القذافى في زيارة إلى جمهورية النيجر التي كانت تعد طبقًا لتصنيف الأمم المتحدة ثاني أفقر بلاد العالم، في رحلة كان من المفترض أن تستغرق 24 ساعة، لحضور احتفالية دينية في ذكرى المولد النبوى الشريف.
طرائف وغرائب
ولأن الرحلة كانت منذ بدايتها مليئة بالطرائف والغرائب، فقد هبطت بنا الطائرة في مدينة أغاديس وسط الصحراء، في مطار من الصعب أن ترى مثيلًا له في حياتك، كان عبارة عن مساحة شاسعة من الأرض الترابية، محاطة بسور من الطين لا يتعدى ارتفاعه المترين، ولا يحوى بداخله سوى ممر لا يستوعب سوى طائرة واحدة، وفى نهايته كشك خشبي صغير؛ لإنهاء إجراءات الدخول والخروج، في الوقت الذي اكتظ فيه سور المطار بالمئات من الأطفال العراة وأنصاف العراة، الذين احتشدوا لمشاهدة الحدث النادر.
وبمجرد أن خرجنا من المطار، نصحنا المرافقون برش مبيدات حشرية معينة على ملابسنا والأجزاء الظاهرة من أجسادنا؛ تجنبا للدغات الحشرات الناقلة للأمراض، وأخرجوا كميات كبيرة من "التشيرتات" المطبوع عليها صورة القذافي، وأخذوا يلقونها على الأطفال والشباب الذين احتشدوا على جانبى الطريق، وسط صراع رهيب بينهم للفوز بأحدها، لدرجة أنه في صباح اليوم التالى وجدنا أغلب أطفال المدينة يرتدون تلك التيشرتات التي غطت بعضها كامل أجسادهم تقريبًا.
وما إن وصلنا إلى الفندق الوحيد في المدينة، حتى اكتشفنا أن سعته 33 فردًا فقط، في حين أن الوفد كان يضم نحو 90 شخصًا، فاضطررنا إلى تسكين السيدات وكبار السن، وتركنا متعلقاتنا البسيطة في الاستقبال، خاصة أنه كان مقررا أن نغادر أغاديس مساء ذات اليوم.
وما هي إلا ساعات، حتى انطلقت بنا الحافلة إلى مكان يشبه الساحات الشعبية البدائية، أعد بداخلها مسرح كبير اعتلاه الرئيس القذافى، ورئيس النيجر في ذلك الوقت محمد طنجة، ومعهما الرئيس السوداني عمر البشير، ورئيسان إفريقيان آخران لا أتذكرهما، بينما افترش كل الحضور من وزراء وسفراء وصحفيين ومدعوين الأرض التي تم إعدادها كساحة للصلاة.
احتفاء السماء بالرئيس القذافي
وما هي إلا دقائق حتى بدأت الاحتفالية التي لم يتحدث فيها من البداية حتى النهاية سوى الرئيس القذافى، وظل الرؤساء الـ 4 بما فيهم رئيس الدولة المستضيفة، مجرد متفرجين يستمعون بإنصات إلى الرئيس الليبي، الذي أم المصلين في صلاة المغرب، وأمسك بالميكروفون وألقى خطابًا متزنًا للغاية، شن خلاله هجومًا على أوروبا وأمريكا، ودورهما في تأجيج الفتن بين السنة والشيعة.
غير أن الرئيس القذافي ما لبس أن خرج كعادته عن السياق في نهاية كل خطاب، وأعلن أنه لا خلاص من تلك الفتنة إلا بإعادة إحياء الدولة الفاطمية، وعلى الرغم من غرابة الفكرة إلا أن كل حاشية القذافي تركوا كل حديثه المتزن، وراحوا يهللون لدعوته اللا منطقية، وسط استغراب وذهول من الجميع.
العجيب، أنه كان من المفترض أن نستقل الطائرة ومغادرة النيجر بعد حفل العشاء الذي جمعنا بالرؤساء الخمسة، إلا أننا فوجئنا بأن الرئيس القذافي أصدر أوامر ببقاء الوفد كاملا حتى مساء اليوم التالى، وهو ما وضع الجميع في ورطة، فلا مكان للمبيت، ولا أحد بحوزته ملابس نوم، أو حتى ملابس بديلة تكفيه ليوم آخر، وفى النهاية استسلم الجميع للواقع، وقضينا الليل بملابسنا على مقاعد بمدخل الفندق، انتظارا لما هو قادم من مفاجآت.
وهو ما حدث بالفعل، حيث أبلغنا المرافقون في الصباح الباكر أن علينا التحرك سريعا للقاء القائد في خيمته، وبمجرد أن دخلنا وجدناه جالسا وحوله طاقم الحراسة، وأمامه جموع غفيرة من الأفارقة يرتدون ملابس مزركشة بألوان غريبة، جاءوا في وفود متتابعة بصحبة ملوكهم من أدغال أدغال إفريقيا؛ ليبايعوه ملكا لملوك القارة، وظلت الهتافات تملأ الخيمة باللهجات الإفريقية المختلفة لساعات، شاهدنا خلالها أنواعا من البشر والملابس، لا أعتقد أننى سأشاهدها مرة أخرى ما حييت.
وكانت آخر المفاجآت مع نهاية اللقاء، حيث هطلت أمطار غزيرة على أغاديس، كان المسؤولون الليبيون أكثر الناس سعادة بها، لدرجة أنهم أولوها جديا "بأن السماء تحتفى بوجود الرئيس القذافى في النيجر، وأنه مع كل زيارة له لدولة إفريقية لا بد أن تمطر وتبكى فرحا بقدومه".
وعدنا من الرحلة العجيبة بعد نحو 48 ساعة دون نوم، تفوح من ملابسنا التي لم تتغير روائح مبيدات حشرية لا تطاق، وتركنا طاقم الرئيس القذافى غارقا في دعوته لعودة الدولة الفاطمية، ومعجزة السماء التي بكت فرحا لقدومه. للأسف هكذا تكون حاشية المتملقين والمنتفعين، وهكذا تترسخ الأنا وتتضخم الذات وينفرد أغلب قادة العالم الثالث بالقرار.. وكفى.