كحك وسيناء.. المسار الذهبى
اسمها «كحك» ولا علاقة لها بكعك العيد، هى قرية تقع على بعد 100 كيلومتر جنوب القاهرة ضمن قرى مركز يوسف صديق بالفيوم، وكانت واحدة من أهم وجهات وكالات الأنباء العالمية والمحلية فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى.
لم تكن شهرة «كحك» لأن بها عالم كبير حصل على نوبل مثلا، كانت أولى وأهم مزارع الإرهاب فى بلادنا، استولى عليها شاب متشدد يدعى «شوقى الشيخ».
و«شوقى الشيخ» كان منشقا على الشيخ عمر عبد الرحمن زعيم الجهاد، والذى هرب فيما بعد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أطبق الشيخ على مقدرات القرية واعتبرها قاعدته لتكفير المجتمع وبناء دولته المزعومة.. أحرق زراعات من لم ينضم إليه وقتل بهائمهم، ووصل إلى قتل بعضهم، ساعتها تدخل الأمن بقوات غفيرة اقتحمت القرية، وقتلت من أتباعه عددا واعتقلت الباقين.
ولكن كيف سيطر الشيخ على «كحك»؟ تقع «كحك» على بعد كيلومترات قليلة من بحيرة قارون، ويعيش أهلها على مهنة الصيد من البحيرة.. تلوثت البحيرة وماتت أسماكها فأطبق الفقر على القرية وأهلها. هنا تدخل «الشيخ» وبدأ مشواره فى رسم الجنات التى تنتظر فقراءها شريطة أن يقيموا حدود الله، وحدود الله كما يتصورها، وبعد إنهاء أسطورة الشوقيين فى القرية تنفس الأهالى الصعداء غير أنهم ظلوا تحت وطأة الفقر المدقع.
وساق القدر الدكتور عبد الرحيم شحاتة الذى أصبح محافظًا للفيوم، وكان رجلًا جريئًا وذكيًّا ووطنيًّا، زار القرية وتدارس أحوالها، فقرر أن يقتحم أسباب الإرهاب والقضاء عليها. أدخل الصرف الصحى فيها قبل أن يدخل عاصمة المحافظة، وأنشأ المدارس والمساجد، وبدأ رحلة تطوير بحيرة قارون بتنقيتها وفق أحدث الأساليب العلمية.
التنمية والإرهاب
ولم يتوقف عند هذا الحد، وقرر أن يحول الفيوم إلى رئة لأهالى القاهرة يسيحون فيها سياحة اليوم الواحد وإنشاء الكافتريات والمطاعم على ضفاف البحيرة، استقبلت الفيوم فى عهد شحاتة ثمانية ملايين سائح داخلى وتحولت «كحك» من قرية طاردة إلى نموذج يحتذى، ووصل التعليم فيها إلى ٩٨٪ ولم يعد للأمية مكان.
نشط الاقتصاد والتعليم فلم يعد للإرهاب موضع قدم، وأصبحت «كحك» واحة للأمان والاستقرار والعمل، وتخرج من أولادها المحامون والقضاة والمدرسون والعلماء.
تذكرت قصة قرية كحك وأنا أتابع زيارة الدكتور مصطفى مدبولى لشمال سيناء، وشاهدت المدن الجديدة والمصانع والجامعات والمزارع، فأيقنت أن سيناء تنتفض الآن لتطارد الأفكار الظلامية بالتنمية. سيناء تم إفراغها لعقود طويلة، بل لأزمنة كثيرة تحت شعار أنها ميدان حرب، تتغير الآن وتبنى مستقبلًا جديدًا.
مع العمل والأمل والاستقرار لا يصبح للإرهاب موضع قدم، الإرهاب يستغل حاجة الناس وفقرهم وخوفهم، يستغل الفراغ ويملؤه بأفكار براقة تَعِد الناس بالجنة والرغد إذا ما جاهدوا وقاتلوا النظام.. الإرهاب سلعة يرتفع تداولها مع الفقر ومع غياب الدولة، وما فعله الدكتور عبد الرحيم شحاتة مع نموذج «كحك» كان هاديا، لو اتبعه النظام منذ ذلك الوقت لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن.
ولن يكون غريبا أو مدهشا إذا ما وجدت واحدًا من هؤلاء المنظِّرين وهو يدخن سيجارا فخيما ليحدثك عن تأخر إنهاء الإرهاب فى سيناء ظنا منه أن المعركة طالت.
من يعرف طبيعة سيناء وبانوراما الحياة الاجتماعية والنموذج الإنسانى الذى عاش لعقود بلا وجود حقيقى للدولة يدرك حجم الكارثة التى حلت بأرض الفيروز، يعلم أننا نحارب شبحا يختفى تحت الحصى وبين الجبال وفى المدقات والكهوف.
الحرب فى سيناء أصعب من كل الحروب التى خاضتها مصر لأننا نحارب فراغًا ومساحات من الغياب صنعتها أنظمة متعاقبة، تركنا فيها الأهل هناك نهبا للحاجة والعوز والفقر.
ما يحدث الآن معركة مع الزمن واللامبالاة، معركة لترسيخ مفاهيم الدولة عند أهلنا الذين تركناهم لعقود بلا دولة ترعاهم وتحميهم وتعلمهم وتحنو عليهم وتساندهم ضد الفكر المظلم قبل أى شيء آخر.. معركتنا فى سيناء هى معركة من أجل الوجود الفعلى لمفهوم الدولة، وهى معركة لو تعلمون عظيمة.