ألغام إسرائيلية في اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان.. التنازل عن الخط 29 بدون مقابل.. وربط استثمار حقل قانا بموافقة تل أبيب
قرّر رئيس لبنان ميشال عون يوم 13 أكتوبر الماضي أن يعلن باسم الأمّة اللبنانيّة جمعاء قبوله باتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، دون مناقشته في مجلس الوزراء، ولا إقراره في مجلس النواب.
ولرفع الحرج، استبق رئيسا الحكومة ومجلس النواب الخطاب بتوزيع نسخ من الاتفاق المكتوب على النواب والوزراء، لأخذ العلم والاطلاع، دون أن تتبع هذه الخطوة أي دعوة للموافقة أو التعليق أو حتّى الاستفسار.
وزعمت الحكومة الإسرائيلية، بقيادة يائير لابيد، أنها قدمت تنازلات على خط الحدود.
واعترفت الحكومة اللبنانية بسيطرة إسرائيل على امتداد ثلاثة أميال من المياه بالقرب من الشاطئ، ووافقت على دفع حصة إسرائيل من عوائد الغاز المأخوذة من الجانب الإسرائيلي من حقل قانا، الذي يقع في المناطق الاقتصادية الخالصة لكلا البلدين، ستمر المدفوعات عبر وسيط هو شركة الطاقة الفرنسية توتال.
إسقاط حقوق لبنان
ومن غير الواقعي افتراض أن لبنان تملك اليوم قدرة الدخول كشريك مشغل في الموقع رقم 9، إلى جانب شركة توتال، رغم امتلاكها حصّة غير مشغّلة تبلغ نحو 20%، بعد أن آلت إليها حصّة شركة نوفاتيك الروسيّة المنسحبة من الشراكة في الحقل، إلا أنّ بنود الاتفاق كما هو واضح من النص لن تقتصر على المدى المنظور فقط، بل سيمثّل حلًا دائمًا ومنصفًا على المدى الطويل، ما يعني أن تداعياته ستستمر لعقود طويلة، بعد تثبيت معادلات التفاهم الجديد في حقول الغاز الحدوديّة، وبمجرّد تثبيت هذه المعادلات، سيكون من الصعب التراجع عنها أو استعادة الحقوق اللبنانيّة المنتقصة فيها.
الإشكاليّة الأبرز في الاتفاق تكمن في حرمانه الدولة اللبنانيّة من حقوقها في الدخول كشريك مشغّل في البلوك رقم 9 كله، ما يعني عدم إمكانيّة دخول شركة وطنيّة في شراكات مستقبليّة مع الشركات الأجنبيّة في هذا البلوك في المستقبل البعيد.
مع الإشارة إلى أنّ تأسيس شركة وطنيّة ودخولها كشريك، ولو بعد عقود، يمثّل خطوة بديهيّة في بلد يرغب بتطوير استثماراته البتروليّة.
وهذه الشركة، قد لا تحتاج إلى تولّي كامل أنشطة الاستثمار والتشغيل في الموقع، بل قد تكتفي بضمان "العوائد السهلة" في القطاع، من خلال القيام بالأنشطة الاستثماريّة المكمّلة لعمل الشركات الأجنبيّة.
ببساطة، سيحرم الاتفاق أجيالًا من اللبنانيين من هذا الخيار في أحد المواقع النفطيّة العشرة، ما يمثّل خطيئة كبرى وتنازلًا عن حق سيادي كبير، دون أي مبرّر منطقي.
ربط استثمار قانا بموافقة إسرائيل
ومن الناحية العمليّة، سيكون بإمكان إسرائيل الشروع باستخراج الغاز من حقل كاريش بمجرّد المضي قدمًا بالاتفاق الراهن، الذي لا يأتي أساسًا على ذكر الحقل أو أي حقول أخرى جنوب الخط 23، ولا يقيّد أنشطة إسرائيل بأي قيود هناك.
وفي المقابل، ورغم تأكيد الاتفاق على الشروع باستثمار حقل قانا بعد توقيعه، ظلّت أنشطة شركة توتال في الحقل مقيّدة ببنود تشترط إنجاز تفاهمها المالي مع إسرائيل قبل القيام بأي عمل استثماري.
وفي هذا الجانب من الاتفاق، لم تلتزم إسرائيل سوى "بحسن النيّة" في مفاوضاتها مع توتال، التي لم تصل إلى خواتيمها بعد.
وبهذا المعنى، استولت إسرائيل على مفاتيح حقل قانا من خلال هذا الاتفاق، من خلال ربط استثمار الحقل بموافقتها على التفاهم المالي، ما سيسمح لها بعرقلة أي نشاط بترولي مستقبلي بمجرّد رفع سقوف مطالبها في الحقل.
وتجدر الإشارة إلى أنّ إنجاز التفاهم المالي بين توتال وإسرائيل لن يعني حلحلة جميع المسائل المرتبطة بالحقل، إذ ستحتفظ إسرائيل بوصفها "صاحب حق اقتصادي" بحق الفيتو في كل مرحلة من مراحل الاستخراج والاستثمار، بمجرّد حصول أي تباين في تفسير المعطيات الجيولوجيّة، كما يجري في العادة في هذا النوع من الأنشطة الاستثماريّة.
وباختصار، أعطى الاتفاق إسرائيل حقل كاريش، فيما ظلّت سيادة لبنان على حقل قانا (المحتمل، والذي لم يتم تأكيد مخزونه بعد) مرهونة بالاتفاق غير المباشر مع إسرائيل.
والسؤال الأساسي هنا، يتركّز حول سبب عدم انتظار إنجاز التفاهم بين توتال وإسرائيل حول حصّة الأخيرة في حقل قانا، وحول شروطها المتصلة بتشغيل الحقل، لضمان سير العمل في هذا الحقل بمجرّد توقيع اتفاق ترسيم الحدود، عوضًا عن توقيع الاتفاق بهذه الصيغة التي تركت المسألة معلّقة بانتظار تفاهم مالي لم يتم بعد.
التنازل عن ملكيّة حقل قانا
حاول المسؤولون اللبنانيون الإيحاء طوال فترة المفاوضات بحصول لبنان على حقل قانا كاملّا، على أن تسدد شركة توتال من أرباحها تعويضًا لإسرائيل مقابل ذلك، لكنّ مجرّد قراءة نص الاتفاق كفيل بالاستنتاج أنّ المسؤولين باعوا الرأي العام اللبناني أوهامًا بعيدة عن الواقع، إذ أنّ إسرائيل وبموجب الاتفاق باتت شريكة وصاحب حق اقتصادي في الحقل، الذي يقع جزء منه جنوب الخط 23، فيما سيتم تحديد الحصّة الإسرائيليّة بموجب التفاهم المالي بين توتال وإسرائيل.
وبهذا المعنى، فلبنان غير معني بمفاوضات توتال مع إسرائيل، وحقّه محفوظ، لكن بوصفه مجرّد شريك وصاحب حق اقتصادي آخر في الحقل، تمامًا كإسرائيل.
وإذا كانت توتال ستعمل لصالح لبنان كما يرد في نص الاتفاق، فمن المؤكد أن التفاهم المالي بين توتال وإسرائيل (شريكنا في الحقل) سيضع إسرائيل في المقام نفسه.
ومع الإشارة إلى أن توتال لن تتمكّن من حفر أي بئر في الجزء الجنوبي من حقل قانا، الذي يقع خلف الخط 23، إلا بالاتفاق مع الإسرائيليين، ما يؤكّد شراكة إسرائيل في الحقل كصاحب حق اقتصادي على المدى الطويل، لا مجرّد طرف متنازل لقاء تعويض.
كما نص الاتفاق على بنود تلزم توتال بإخطار الجانب الإسرائيلي قبل العبور في الجزء الجنوبي من حقل قانا، بما يوضّح مجددًا "سيادة" إسرائيل على مياه هذه الحقل الجنوبيّة، بخلاف ما سوقّه المسؤولون اللبنانيون قبل نشر مضمون الاتفاق.
التنازل عن الخط 29 بدون مقابل
من المؤكد أن أي تفاوض أو تفاهم يستلزم تنازلات متبادلة، إلا أنّ لبنان امتلك منذ البداية ملفًا قانونيًا صلبًا، يسمح بالمفاوضة على أساس الخط 29، الذي يعبر ضمن حقل كاريش الذي تستثمره إسرائيل.
وحين تنازل المسئولون اللبنانيون عن هذا الخط، وانتقلوا إلى المفاوضة على أساس الخط 23، بتراجع قدره 1430 كلم2 من المياه البحريّة، تم ذلك على أساس مبدأ الحصول على حقل قانا كاملًا، الذي يقع على جانبي الخط 23.
أمّا اليوم، وبعد أن تبيّن أن لبنان مجرّد شريك في حقل قانا، إلى جانب إسرائيل، فبات من الضروري السؤال: على أي أساس تم التنازل عن الخط 29 ولقاء ماذا؟ وما قيمة هذا التنازل إذا لم يتم تحصيل أي مكسب إضافي، فوق الخط 23 الذي كانت قد سلّمت به إسرائيل منذ سنوات، ورسّمت على أساسه حدودها البحريّة ؟