الميثاق الغليظ!
من الكلمات التي تهز وجداني بعمق كلما مرت علىّ خلال إعادة شحن بطارية أفكاري وقيمي، وتجعلني أجزم أن التسمية الربانية للزواج والارتباط بالميثاق الغليظ هو أعمق معنى سمعته على الإطلاق، رغم انحيازي المزمن للحداثة والمسميات العصرية للأشياء.
عن الزواج والارتباط
نعم الزواج والارتباط قرار خطر للغاية يليق بأن يكون ميثاقا غليظا رغم كل ما فيه من مكاسب وارتواء واحتواء، إذ يحتاج إلى تمتع كل الأطراف بثقافة وعلم المهندسون المعماريون والبناءون الذين تسند إليهم مهمة إنشاء الأبنية الضخمة التي لا يمكن لها أن تبقى في المستقبل إلا وفق عمق وقوة أساساتها!
ربما لهذه الأسباب وخطورة القرار وأهمية اتخاذه من أطراف على دراية كاملة بإشكالياته وكيفية الحفاظ عليه والوفاء به، وصفه الله بنفس الوصف الذي أخذه على الأنبياء: "وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ. سورة الأحزاب.
في الفترة الأخيرة كلما تابعت الأرقام المذهلة ـ حالة طلاق كل دقيقتين.. 65% من قرارات الانفصال تتخذ في العام الأول فقط ـ أدركت مباشرة أننا وصلنا لهذا الحد من السيولة المفزعة في اتخاذ قرارات الانفصال بعدما افتقدنا ثقافة الميثاق الغليظ.
أصبح غالبية أبناء المجتمع ـ أفرادا وأسر ـ يجهلون معنى الارتباط وتداعياته وخطورة انعكاساته على الأسرة الناشئة إذا ما انفرط عقدها، ويزيد من الكارثة البرامج الشعبوية التي تسوق نعرات التحدي وتشعل ندية متطرفة لا نتائج ملومسة لها حتى الآن إلا تشريس المرأة والرجل بما يزيد من معاول هدم الأسرة وتفتيت بنيانها.
نعم.. أسقطنا موزاين الميثاق الغليظ من حساباتنا فتبدلت ثقافة حل الخلافات بسهولة ويسر وعدالة، وأصبحت الزوجة وأسرتها يبحثون بكل قوة عن إبرام كل العهود الممكنة على الزوج لإسعاد زوجته والوفاء بالتزاماتها، دون بذل مجهود مناسب، وقطع نفس العهود على أنفسهم والرد بالمثل من أجل راحته واستقراره.. والعكس كذلك من الزوج وأسرته!
حلول ممكنة
في الماضي كنت أراهن على الفردانية دائما.. الحلول الشخصية لأعقد المشكلات، لكن ثبت أن المجتمعات الجماعية لاتناسبها هذه المثاليات ولهذا أصبحت على يقين بالحاجة السريعة للتدخل وفرض التزامات صارمة من أعلى.
وأقترح من هذه النافذة تضمين قانون الأحوال الشخصية الجديد ما يلزم طرفي العقد بالخضوع لدورات معمقة وحقيقية وليست مزيفة أو صورية ـ قبل العقد ـ يعدها خبراء من كل التخصصات، علماء نفس واجتماع وقانونيون ومثقفين ورجال دين ويعقبها امتحان به أعقد وأجرأ الأسئلة اللازمة للتعامل مع المواقف الصعبة والمؤلمة والمفصلية ورؤية كل طرف لحل المشكلات.
هنا سيكتشف الطرفين من خلال الأجوبة ثقافة كل منهما الآخر، وقد يتراجعا أو يستكملا الطريق على مسئوليتهما، لكن يجب أن تصبح الإجابة ضمن مصوغات عقد الزواج حجة عليهما فيما بعد، وتستدعى لحل الخلافات التي تخرج عن نطاق السيطرة، سواء بشكل ودي أو قضائي، فالزواج ليس لعبة، ولا هدم الأسر والممتلكات والأطفال بالأمر اليسير.
وأدعو المهتمين بهذه الملف للاجتهاد في ضخ اقتراحات علمية وتسامحية وعادلة تساعد بأمانة وتجرد الأفراد والأسر على كيفية اتخاذ هذا القرار الصعب والمصيري بناء على معرفة مكتملة ومسئولة وراشدة قبل الإقدام عليه، وتحصينهم من الجهل المعرفي بالزواج وأسبابه وكيفية إدامته ومتى يصبح الانفصال مطلوبا، وماذا بعده لإبقاء الود والاحترام، وخاصة لو نتج عنه أطفال لاذنب لهم فيما يحدث بما يشبع الجميع بثقافة التسامح والوعي بأدوات التغلب على الأوقات الصعبة ومواجهة المحن، هذا إن كنا نريد إعادة مشروع الزواج إلى هيبته واحترامه، وميثاقه الغليظ مرة أخرى!