ليه ياربي.. حكمة ربانية في المنع والمنح ( 3 )
قصة حقيقية عشت تفاصيلها، ولا يزال طرفاها حيين بين أظهرنا.. هو شابٌ نابه، موهوبٌ في مهنة إبداعية، لكن حظَّه أنه لم يحترفها.. هكذا شاء القديرُ.. بينما زميله في الكلية نال إعجابَ الرؤساء والمدراء في المؤسسة التي كانا يتدربان بها، رغم أنه كان أقل موهبة من بطل قصتنا، الذي آثر العمل بمهنة أخرى بعيدة كل البعد عن المجال الذي كانا يعملان معًا به، وامتهن حرفة ليس بها أي إبداع. وشقَّ طريقه في الحياة.
أما زميل بطلنا فواصلَ النجاح، وتغلب على العقبات التي واجهته في مهنته المرموقة، وصقلَ موهبته، والتحق بمؤسسةٍ عالميةٍ في دولةٍ أجنبية، وحازَ ثروة طائلة.. وحان وقت العودةِ إلى مصر، فتشارك مع بعض زملائه في مشروعٍ وضعوا فيه جُلَّ حصيلة الغربة.. ولكن تأتي الرياحُ بما لا تشتهي السفن، فيتكبد المشروعُ خسائر مروعة، ويخسر تحويشة العمر، ويضطر لكي يعيش للبحث عن عمل كالمبتدئين.
التقيتُ ببطل قصتنا، فوجدته ساخطًا، يندُبُ حظَّه، ظنًّا منه أن زميلَه ما زال في القمة، فلما قصصتُ عليه ما كان من شأنه، إذا به يصابُ بصدمة، حزنًا على صديق الشباب، ورفع كفَّيْه حمدًا لله، وشكرًا لأنه لم يتعرض لتجربةٍ مؤلمة، مثلَ صاحبه.
منْ أسعد حظا
استمعت ذات مرة لحكاية صديقتين، الأولى كانت أكثر تفوقا في الدراسة من صاحبتها، فحصلت على مجموع ضخمٍ في الثانوية العامة، والتحقت بكلية الطب، فإذا بها تقاطع صديقتها التي لم تحزْ سوى على مجموع أهلها للالتحاق بكلية نظريةٍ يُنظر إليها باعتبارها متواضعةَ المستقبل. الطبيبةُ تفوقت حتى تخرجت بتقديرٍ مرتفع، وافتتحت عيادة.
الطالبةُ الأخرى، تفوقت جدًّا، وعُيِّنت معيدةً في كليتها، وتزوجت من مدرسٍ بالكلية، وواصلت حتى نالت الماجستير ثم الدكتوراه.. الطبيبةُ لم تحقق نجاحًأ يذكر بعد التخرج، واكتفت بالحصول على دبلوم في تخصصها، ولم تلقَ عيادتُها إقبالًا من المرضى، ولم تتزوجْ.. فأيهما أسعد حظًّا؟!
وقالها الأديب الكبير عباس محمود العقاد، منذ عشرات السنين:
صغيرٌ يطلبُ الكِبرا.. وشيخٌ ود لو صَغُرا
وخالٍ يشتهي عملا.. وذو عملٍ به ضَجِرا
ورب المال في تعب.. وفي تعب من افتقرا
وذو الأولاد مهمومٌ.. وطالبهم قد انفطرا
ومن فقد الجمال شكي.. وقد يشكو الذي بُهِرا
ويشقى المرء منهزما.. ولا يرتاح منتصرا
ويبغى المجد في لهفٍ.. فإن يظفر به فترا
شُكاةٌ مالها حَكَمٌ.. سوى الخصمين إن حضرا
فهل حاروا مع الأقدار.. أم هم حيروا القدرا.
وفي الحديث القدسي؛ "قال الله تعالى: من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليلتمس ربا سواي". ولو قنعنا بما وهبنا الله لما كانت هناك صراعات، ولا صدامات ولا حروب قذرة ولا مشاحنات، ولا غيرة ولا تكالب ولا تقاتل ولا تنابذ ولا أحقاد ولا حسد.. نحتاج لأن نشكر الله، ونحمده على كل حال، قال أحدهم: “لا تحزن اذا منع الله عنك شيئا تحبه فلو علمت كيف يدبـر الله أموركم لذابت قلوبكم من محبته”.
وأعجبتني كلمة للشيخ راتب النابلسي: “رحمة الله في العطاء، وقد تكون في المنع”. وفي الحكم العطائية: “ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، ومتى فتح لك باب الفهم في المنع صار المنع عين العطاء".