الصناعة المصرية تنهار
أؤكد أن الحالة الكارثية التى وصلت إليها الصناعة المصرية خلال الشهور الأخيرة تفرض على الحكومة ضرورة التريث والتحلي بالحكمة، وإعادة النظر في الأسباب التي جعلت آلاف المصانع تغلق أبوابها جبرا، وتحرم البلاد من منتج وطنى جيد، انعكست آثاره بالسلب على ارتفاع الأسعار بالأسواق المحلية، وتشريد آلاف العمالة، وحرمان البلاد من مليارات الدولارات نتيجة لتقلص حجم الصادرات للخارج.
فعلى عكس كل دول العالم التى تسعى لإزالة العقبات أمام المستثمرين وتشجيع الصناعات الوطنية، قام البنك المركزي فى مارس الماضى باتخاذ مجموعة من القرارات، رأها من وجهة نظر اقتصادية قد تحافظ على واردات مصر من النقد الأجنبي، وسد إحدى الفجوات الضخمة لتسرب العملة الصعبة، غير أنها تسببت فى إغلاق عدد كبير من المصانع، وتخفيض الإنتاج المحلى، وتشريد آلاف العمال، وحد بشكل كبير من تدفق العملة الأجنبية، وارتفاع أسعار العديد من السلع، نتيجة لتعثر المصانع عن استيراد مستلزمات الإنتاج لصعوبة تدبير الدولار.
قرارات مارس
ولعل ما يدعو للأسف فى القرارات المرتبكة للبنك المركزى والحكومة معا، أنها لم تؤثر فقط على المصانع الكبيرة فقط، بل امتدت أيضا إلى الصناعات الصغيرة والوسيطة، التى باتت عاجزة أيضا عن تدبير مستلزمات الإنتاج من الداخل، بعد الارتفاع الهائل فى الأسعار، وعرض المخزون منه بسعر اليوم ، تماشيا مع سعر الدولار فى السوق السوداء، وهو ما انعكس بدوره على الارتفاع الضخم فى أسعار آلاف السلع بالأسواق المصرية.
الواقع يقول إن البنك المركزي والحكومة قد عالجا الأزمة بالحلول السهلة، بدلا من الإقدام على سد الفجوات الضخمة التى تتسرب من خلالها العملات الأجنبية، وعلى رأسها المافيا التى تشكلت فى كل دول الخليج منذ سنوات، وتستحوذ على الكم الأكبر من تحويلات المصريين وواردات التصدير ومنع دخولها للبلاد، حيث يقوم أفرادها بالخارج بتجميع تلك المدخرات والعائدات، وتسليم مقابلها بالجنيه المصرى وبأعلى سعر، وفى أى مكان في مصر خلال دقائق، وهى الطريقة التي وجد فيها المصريون فى الخارج والمصدرون طريقة سهلة ومربحة للحصول على تحويلاتهم من الخارج، بعيدا عن تعقيدات الإجراءات وأسعار البنوك.
وعلى الرغم من تراجع البنك المركزي والحكومة عن بعض قرارات مارس الماضي، التى أجبرت المستوردين على التعامل بمستندات التحصيل بدلا من الاعتمادات المستندية، إلا أن كل المنشآت الصناعية فى مصر التى يصل عددها إلى نحو 41682 منشأة مازالت تواجه خطر التوقف، وأن نحو 2.2 مليون عامل يعملون في تلك المنشآت مازالوا يواجهون خطر التشريد، وأن 146 منطقة صناعية فى مصر باتت على وشك التحول إلى مناطق أشباح، نتيجة للقرارات الحكومية المرتبكة، والضرائب متعددة الأشكال والأنواع، وعراقيل وتجاوزات المحليات التى بات خطر العاملين بها يشكل سلطة فوق السلطة ومصدر قلق لكل تلك المنشآت الصناعية.
مصانع متعثرة
الغريب فى الأمر أن الحكومة تعلم يقينا أن هناك عددا كبيرا من المصانع تعثرت وتوقفت عن الإنتاج خلال السنوات الماضية، لأسباب لم تحرك لها ساكن، غير أن الأزمات الأخيرة أجبرت مصانع جديدة على الإغلاق، لدرجة أن المعلومات أكدت أن أكثر من 500 مصنع من إجمالى 1600 مصنع بالمنطقة الصناعية فى منطقة السادس من أكتوبر أغلقت أبوابها بالفعل، وأن 1100 مصنع خفضت طاقتها الإنتاجية إلى 25% فقط، لدرجة أن أسعار القمح والدقيق التى تشكل العمود الفقري لصناعة الخبز غير المدعم ، ارتفعت محليا خلال الشهور الأخيرة بشكل كبير، بسبب تعثر المستوردين عن دفع مقابل الشحنات بالدولار، وتكدس كميات كبيرة منها بالموانئ المصرية.
وهو ما أكدته للأسف مذكرة رفعتها غرفة صناعة الحبوب باتحاد الصناعات المصرية لوزير التموين فى 26 سبتمبر الماضي، أكدت أن نحو 700 ألف طن من القمح محجوزة فى الموانئ بسبب تعثر المستوردين عن الوفاء بمتطلباتهم من الدولار، ما أدى إلى توقف نحو 80% من المطاحن عن العمل، وانعكس بالسلب على أسعار الخبز غير المدعم والمكرونات بالأسواق، على الرغم من تراجع أسعار القمح عالميا إلى مستويات ما قبل الحرب الروسية الأوكرانية.
المؤكد أن الحكومة لم تستوعب بعد سلبيات القرارات المرتبكة التى أصدرتها خلال الفترة الماضية، بدليل أنها أقدمت على إصدار قرارات جديدة منذ أيام، قد تزيد من تعثر الصناعة المصرية، أبرزها تحريك أسعار الغاز الطبيعي لمصانع الأسمنت بنسبة تخطت الـ 100% ليرتفع من 5.75 إلى 12 دولارا لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، مما سيؤدى بالتأكيد إلى ارتفاع أسعار الأسمنت.
وما يزيد من العجب، أن الحكومة سبق وأن قامت قبل أقل من عام برفع أسعار الغاز الطبيعي لمصانع البتروكيماويات والأسمدة والأسمنت بنسبة 1.25 دولار ليصبح 5.75 دولارا، وبنسبة 0.25 دولار لعدد من الصناعات الأخرى، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار الأسمنت فى مصر بنسبة 100% خلال عام واحد.
لا أستطيع القول سوى أن الحكومة تتحمل المسئولية الأكبر فى تعثر الصناعات المصرية خلال السنوات الأخيرة، وأنها لم تستوعب بعد أن القوام الأساسي لاقتصاديات الدول يقوم على الصناعة والزراعة والتجارة، وأن خطورة ما تتعرض له الصناعة المصرية يفرض عليها ضرورة إعادة النظر في قراراتها ودعم المصانع المتعثرة دعما للاقتصاد المصرى، خاصة وأن هذه المشكلات يضعها المستثمرون بصفة عامة في حساباتهم، قبل القيام بأى استثمارات جديدة في مصر، لذا لابد من دراسة متأنية للوضع الحالى للخروج من هذه الأزمة.. قبل أن يأتي اليوم الذى نبكى فيه على اللبن المسكوب.. وكفى.