بليغ حمدي.. وفن تركيع الحروف والسلالم الموسيقية!
لزميلنا عمرو عطوة المخرج الصحفي المبدع جملة خالدة سمعناها عشرات المرات في تجارب عديدة كنت فيها رئيسا للتحرير.. لا يقول فيها "سوف ارسم صفحة الفن" مثلا.. لا.. يقول دائما: “هلعب صفحة الفن” أو يقول عندما يسرقنا الوقت قبل الطباعة "مش هنلعب الصفحة الاولي! كثيرون.. في ساحات الإبداع.. متيمون بمهنتهم.. لا يمارسونها أكلا للعيش.. إنما حبا وعشقا..
وفي اعتقادنا إن أهم ما يميز بليغ حمدي هو قدرته علي التحدي.. لا يعرف كلمة "لا".. ولذلك ملحنون غيره ابدعوا وقدموا الحان خالدة وضعتهم في مكانة لا يصل إليها غيرهم.. يقف في هذه المساحة الموجي والطويل وفوزي ومكاوي ومنير مراد.. بينما يقف محمد عبد الوهاب خارج المنافسة والمقارنة معا.. لكن كل هؤلاء في ظننا -وليس كل الظن إثم- قالوا لا مرات ومرات.. لكن التحدي عند بليغ حمدي هو قدرته الفذة المدهشة علي تطويع الكلام وتركيع النغم.. فما قدم له من المؤكد أنه لو قدم لغيره لرفضوه.. وقدرته علي تحويل المستحيل إلي ممكن وبجمال ربما لم يتصوره أحد!
تحدى بليغ
باسترجاع أغنية علي الربابة وكلماتها تقول: "وانا علي الربابة بغني" يصنع بليغ حمدي الأغنية من الكلمة الأولي "واناااا" وببني عليها في أذن المستمع اللحن كله! وفي أغنية ع الرملة، وكلماتها تقول "ع الرملة.. ع الرملة.. وهو خايف من الرملة ع الرملة.. ع الرملة.. وأنا خايف من الرملة"! وربما يسخر أي ملحن من كلماتها لكن بليغ حمدي لا يقول لا.. ويهيمن تماما علي الكلمات ويصنع منها أغنية تاريخية!
الأمر نفسه مع نجاة.. فمثلا أغنية يا خسارة نسي، وكلماتها تقول: "نسي.. ايوة والله نسي"، ومن هذا المدخل يقف اللحن كله علي قدميه.. كيف ذلك؟! وكذلك في اغنيتهما في وسط الطريق.. كيف أيضا؟ لا نعرف.. لكنه فعلها!
مع عفاف راضي وأغنية "ما تيجي جنبي.. هنا جنبي.. ده مني عيني"، ومنها يصنع واحد من أشهر أغاني عفاف راضي كما صنع لها "ردوا السلام ولا تطلعوش في العالي" و"عطاشي" وهكذا مع شادية في اه يا اسمراني، وكلماتها تقول: "اه يا اسمراني اللون حبيبي الاسمراني.. يا عيوني ناسياني عيون حبيبي الاسمراني"!
وكذلك مع شريفة فاضل في اه يالمكتوب وكلماتها تبدو صعبة جدا وتقول:
"آه يالمكتوب اه يا عيني.. آه يالمكتوب
في قلوب مرتاحة في دنياها.. وقلوب بتدوب
وقلوب تقول الهوى قاسي.. لكن ما بتوب"
وهكذا أيضا في "يانا يانا" و"كل حب وأنت طيب يا راجل يا طيب" ومع وردة في "صلى.. صلى عليه.. سلام على الناس الحلوين وسلام على بلاد الحلوين.. حلاوة الحلوين الناس الطيبين.. يا عينى ع الحلوين يا سلام"
وهكذا في مئات الأغاني.. تبدو الكلمات صعبة النظم.. وربما تفتقد للجمال والتناسق.. لكنها تتحول بعد أن تخرج من تحت يديه إلي شئ آخر يختلف عن النص المكتوب.. وعن إحساسنا بها مقروءة.. فتستمع إليها وتستمتع بها وتتمعن في معانيها وتدب فيها روح جديدة! كان من حظ أغلب الملحنين الآخرين أن تعاملوا مع كلمات ألطف وأكثر اتساقا.. لكن بليغ حمدي الذي لا يقول لا.. يقبل التحدي.. ويصنع من أي خواطر لأي شاعر أغنية ناجحة.. خالدة.. ولذلك يقال عن بليغ حمدي كلام كثير ويطلق عليه صفات عديدة ويقال عن أعماله تحليلات لا تنتهي ولكن في تقديرنا إن أهم ما يميزه وكما قلنا.. أنه الملحن الذي لم يقل لا.. لعب بالنغم بالأغنيات.. متيم بهما، فخضعت له الحروف وركعت له السلالم الموسيقية!