فتحية.. رئيسا للمجلس القومى للمرأة
يمضى الجرار الزراعى الصغير، ومن خلفه مقطورة لا تتناقض مع حجمه، وسيدة أربعينية تقوده، ومن وراء ظهرها يضرب الزوج الكفيف على أنابيب الغاز دالًّا على بضاعته. هناك وفى دروب قرى لا تطَّلع على «العته النسائى» المنفجر من وسائل إعلام تسعى سخرية وراء فحش القول من سيدات فقدن القدرة على الحياة الطبيعية فآثرن السباحة فى بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض.
هناك وفى هذه المساحات البكر لا تزال فتحية تقود الجرار ومن خلفها زوج يضرب على الأنابيب طوال النهار، يعودان إلى بيت صغير على أطراف القرية الخضراء، يستريحان من عناء يوم شاق ليبدأ بينهما حديث لا يقطع دفأه تلك الدعوات التى انطلقت من «بربخ» الصرف الصحى فى قاهرة المعز.
فتحية التى تزوجت ابن عمتها الكفيف أقامت أسرة ناجحة مع زوجها الذى فقد بصره ولم يفقد إنسانيته، ولم يعرف طريقا إلى جدل نسوان مصر المحروسة. بعد زواجهما بدءا يفكران فيما يمكن أن يعملا به، واشتريا عربة كارو وقررا بيع أنابيب البوتاجاز لبيوت قريتهما والقرى المجاورة، يستيقظان فجرا إلى المخزن، ثم ينطلقان إلى حيث أبواب الرزق.
تعاطف أهل القرية مع فتحية وزوجها الذى لم يفقد الأمل والإصرار والتحدى، ومع زوجته التى تقول عن نفسها إنها مجرد عيون لزوجها، بينما يمثل هو لها كل مصادر الأمان. قرر أهل القرية تخفيف العبء عن كاهل أسرة تعمل ليل نهار لتربية أبنائها فاشتروا لهما جرارا زراعيا صغيرا بديلا عن العربة الكارو، وقررت فتحية أن تقود الجرار، وقد كان.
نموذج مصرى
فتحية لا تعرف المجلس القومى للمرأة، ولا تعرف جمعيات أكل العيش من خراب بيوت المصريات، ولا تهتم بما يرى على ساحات السوشيال ميديا، ولم تنصت يوما لشيخ معمم يحول بينها وبين إرضاع أطفالها. فتحية إنسانة طبيعية تحمل بين ضلعيها قلبًا من ياقوت، قلبًا يمكنه وحده نثر بذور المحبة التى تكفى وطنًا لا يخلو من دعوات حيزبونات العصر الحديث.
وفتحية التى تبدأ عملها مع زوجها من الفجر حتى آخر شعاع نور استطاعت أن تربى ولدا وبنتا يدرسان بالمدارس ويتفوقان على أقرانهما، وهى ما بين العمل والاهتمام بأسرتها قلب ينبض بالحب.
سألتها زميلتنا سالى نافع فى تقرير مصور عرضه موقع «فيتو»: أليس هذا العمل شاقًّا على امرأة؟ ردت بعفوية: «ربنا بييسر لينا كل حاجة.. أحمل الأنبوبة إلى الزبون دون معاناة ودون إرهاق»، وأردفت قائلة: «فى آخر الليل وبعد أن نعود إلى بيتنا أنسى كل معاناة بمجرد سماع كلمة حلوة من زوجى.. أنسـى كل ما مر بنا فى هذا اليوم، وأعود كما لو كنت بلا تعب ولا نصب ولا إرهاق».
فتحية أرضعت ابنيها وربتهما أفضل تربية وتعكف معهما على متابعة دروسهما، وتطبخ لهما ولزوجها، وتنظف بيتها، وتغسل، ولو سمعت أن هناك من نسوة مصر من يطالب بعدم إرضاع الأم لأولادها لاستغفرت ودعت لهم بالهداية.
استمعت إلى تقرير «سالى» ولم تدهشنى فتحية، فقد كانت أمى وكل الأمهات فى قريتنا يفعلن ما تفعله فتحية، ينظفن زرائب المواشى، ويحلبن الأبقار والجاموس، ويعددن الطعام، وبعضهن يمسكن بالفأس وكأنهن رجال لا يضعفهن شعاع شمس حارق ولا إرهاق يوم قائظ.
شردت قليلا وتخيلت لو أننا أردنا أن نقول للعالم إن لدينا امرأة تقود عملية البناء والتنمية مع الرجل يدا بيد، فمن نقدم لهذا العالم؟ هل نقدم امرأة تحرض الأم على عدم إرضاع أطفالها؟! ولماذا لا تكون فتحية هى رئيس المجلس القومى للمرأة؟ نعم، فـ«فتحية» هى المرأة المصرية الحقيقية، لا يغلف وجهها مسحوق خادع ولا تشغلها عن أبنائها أضواء كاذبة.
فتحية رئيسا للمجلس القومى للمرأة.. عنوان يمثل الواقع والحقيقة، وينأى بنا عن خيالات مريضة ونسوة فشلن فى حياتهن، فاخترن طريق التخريب والتغريب والتغييب. ليس مجافاة للحقيقة، لو قلنا إن فتحية هى النموذج الذى يعرفه معظمنا فقد كانت أمهاتنا سيدات عظيمات فى بيوتهن، ولم يكن خادمات ولا مرضعات.. كن أمهات يطعمن ويعملن فى الحقول، ويفعلن ما تفعل فتحية.