حديدية وحرباء سياسية
تصاعدت النزعة القومية في السنوات الأخيرة وباتت الشعوب أقل تسامحًا وتقبلًا للأغراب والدخلاء على المجتمع، إن كان في الولايات المتحدة وأوروبا وغيرها من القارات لأسباب يطول شرحها، من هنا تخلص الغرب من ملايين اللاجئين تلبية لرغبة شعوبه بعدما استشعر الخطر الداهم من وجودهم.
كانت المساواة بين إبن البلد الأصيل ونظيره المجنس سمة في تلك الدول، لكن تغير الأمر ولم يعد المواطن الأصيل يمنح صوته لمن نال الجنسية ويرفض توليته مناصب رفيعة.
لأنه وإن نال جنسية البلد فسيظل دخيلا على نسيج المجتمع، وأقرب مثال على ذلك، ما حدث في اقتراع حزب المحافظين البريطاني، لاختيار رئيس حكومة يخلف بوريس جونسون، الذي اضطر للتنحي بعد مخالفات عدة، وانحصر التنافس على أرفع منصب حكومي بريطاني بين وزيرة الخارجية ليز تراس، ووزير المالية المستقيل ريشي سوناك، وهو بريطاني من أصل هندي.
وبعد أن كان معتادًا أن تضم الحكومة البريطانية وزراء يتمتعون بالجنسية من أصل غير بريطاني بما فيها حكومة بوريس جونسون، رفض الشعب أن يتولى بريطاني من غير أبناء البلد، أرفع منصب تنفيذي ويقود الحكومة، حتى وإن كان يتمتع بالجنسية منذ طفولته.
عصر تاتشر
في جلسات الاقتراع الأولى تفوق ريشي سوناك وليز تراس، على منافسيهم وانحصر المنصب الرفيع بينهما، هناك من عزف عن الاختيار بينهما مقابل تفضيل البعض لأحدهما على الآخر نظرًا لتباين خططهما في التعامل مع التحديات الراهنة خصوصًا الاقتصادية، وجاءت الكلمة الفصل من الشعب، الذي رفض التصويت للوزير البريطاني الهندي سوناك، على خلفية لون بشرته الأسمر وملامحه الهندية وإن كان بريطاني الجنسية، وانه مهما كانت العواقب يجب منع وصوله للحكم، وهو ما حدث، إذ نالت تراس 57 في المئة من الأصوات مقابل 43 في المئة نالها سوناك.
في ظل الحرب الراهنة، التي خلفت تحديات اقتصادية وتضخم وأزمة طاقة تنذر بشتاء قارس، مع إصرار بريطانيا على مساندة أوكرانيا ومعاداة روسيا، شعر الشعب بالحنين إلى الماضي، وحاجته إلى قيادة تشبه رئيسة الوزراء السابقة مارجريت تاتشر، وبعد فشل تريزا ماي، في الاقتراب من نموذج تاتشر، وإجبارها على الاستقالة من رئاسة الحكومة قبل بوريس جونسون، فقد وضع الشعب أمله في وزيرة الخارجية ليز تراس، التي باتت ثالث إمرأة تتولى رئاسة الحكومة بعد تاتشر وماي، وتمنى أن تعيد العصر الذهبي لحكم تاتشر، التي سحقت النقابات وخفضت الضرائب وزادت دعم الشعب ليشعر بالرفاهية بعد أن ازدهر الاقتصاد.
تغيير في المواقف
شاءت الصدف أن ليز تراس (47 عامًا)، التي توصف بـ "التاتشرية الحديدية"، كان لها إهتمام مبكر بشخصية مارغريت تاتشر، حتى أنها جسدت شخصيتها في مسرحية مدرسية وهي في السابعة من عمرها. ويأمل كثير من البريطانيين أن تتمتع ليز تراس بقدرة تاتشر في مواجهة التحديات وقيادة التحول في البنية الاقتصادية للبلاد، خصوصا أنها تعهدت فور انتخابها بسرعة معالجة أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة، عبر خطة للتعامل مع فواتير الطاقة وتوفير إمدادات مستقرة ودائمة للوقود، لتبديد مخاوف الشعب من شتاء قارس.
ربما لن تختلف سياسة ليز تراس، جذريًا عن جونسون، لكن خياراتها ستكون أوضح وأكثر جرأة فيما يتعلق بهموم وقضايا تؤرق الشعب وتضغط عليه، ومن أجل هذا أعلنت أنها ستختار فريقًا حكوميًا قويًا ومتجانسًا يعمل على تلبية طموح الشعب بشكل تدريجي واثق.
في مقابل الحالمين ب تاتشر جديدة، أبدى البعض تخوفه من التحولات الجذرية في المواقف السياسية لرئيسة الحكومة ليز تراس، ربما بحثًا عن مواقع أفضل أو سعيًا لمناصب أرفع تلبي طموحها، وهي التي أثبتت نفسها منذ انتخابها لعضوية البرلمان في العام 2010، ورسخت إسمها كقوة سياسية ذات طبيعة خاصة في فترة زمنية قصيرة نسبيا.
التغيير الجذري في مواقف ليز تراس، منحها لقب حرباء سياسية، بعدما تحولت من راديكالية تطالب بإلغاء الملكية في بريطانيا، إلى يمينية في حزب المحافظين تشكك في أوروبا. كما تحولت من معارضة تماما الانسحاب من الاتحاد الأوروبي إلى مؤيدة بريكست، مبررة بأن تخوفها من تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم يكن في محله.
ووسط تلك التحولات السياسية تميزت ليز تراس بالوصول إلى أهدافها وتحقيق أجندتها بسرعة، ونجاحها في الوزارات التي تولت حقائبها منذ العام 2014، كوزيرة دولة للبيئة والغذاء في حكومة ديفيد كاميرون، ثم وزيرة العدل بحكومة تريزا ماي، في 2016، ومنها إلى نائبة وزير الخزانة، وهو المنصب الذي وضعها في قلب البرنامج الاقتصادي للحكومة، وبعد أن تولى بوريس جونسون رئاسة الحكومة في 2019، تولت تراس حقيبة وزارة التجارة الدولية، وفي 2021 انتقلت إلى واحدة من أرفع حقائب الحكومة وتولت وزارة الخارجية، وأخيرًا رئيسة الحكومة.
تراس الطموحة تغير مواقفها حسب الفئات التي تتعامل معها، لكنها الآن مسئولة عن جميع أطياف المجتمع البريطاني، فما طبيعة المواقف التي ستتخذها وهي في سدة الحكم؟!