حكاية الشروط اللى ورا القرض
لا أجد مبررا لحالة الجدل التى صدرتها الحكومة عن عمد خلال الأيام القليلة الماضية، للظهور أمام الرأي العام فى صورة البطل، خلال مفاوضاتها مع صندوق النقد للحصول على القرض الجديد، ولاسيما أن ضألة قيمة القرض لا ترتقى لحجم الطموحات التى كانت تتطلع إليها القاهرة، وأن أغلب الشروط التى فرضها صندوق النقد صب في صالح الدولة والمواطن المصرى، على عكس تماما ما رددته الحكومة، بل وأن عدم تطبيق أغلبها يضع كثيرا من علامات الاستفهام حول طريقة إدارتها المال العام فى مصر.
فرغم يقينى أن كثيرا من الأبواق سوف تتبارى للرد على ما سأطرحه فى هذا المقال، ولاسيما فيما يتعلق بحقيقة شروط الصندوق، وما وصلت إليه المفاوضات حول القرض الجديد الذى باتت مصر قاب قوسين أو أدنى من الحصول عليه، إلا أن الواقع على الأرض دون تجميل يؤكد أن الحكومة المصرية بالفعل فى ورطة، وتسابق الزمن لتدبير ما لا يقل عن 30 مليار دولار قبل نهاية العام الحالى، للوفاء بالأعباء الثقيلة لخدمات الديون الخارجية، وقيمة السلع الأساسية المستوردة اللازمة للبلاد خاصة القمح والبترول، وتوفير الاعتمادات التى تضمن الاستمرار فى خطة التنمية الضخمة التى باتت لا تمتلك رفاهية التراجع عن استكمالها، فى ظل ظروف خانقة فرضتها تداعيات داخلية وخارجية، زاد من أعباء الموازنة المصرية بشكل كبير.
ودون الدخول فى تفاصيل، فقد دفعت الأزمة الحكومة المصرية إلى معاودة اللجوء إلى صندوق النقد للحصول على قرض جديد، كانت تطمح مع بداية المفاوضات أن يتراوح بين 10 و15 مليار دولار، غير أن سقف الطموح انخفض مع جولات المفاوضات الصعبة ليصل إلى ما بين 3 و5 مليارات دولار، وبات مرهونا بشروط بعضها مجحف، وبعضها مقبول للغاية ويصب في مصلحة الحكومة والمواطن معا، على عكس ما ردد كثير من المحللين فى مصر.
شروط صندوق النقد
باستعراض بسيط لمسيرة المفاوضات والشروط التى وضعها صندوق النقد، نجد أنه قد جاء على رأسها شرط مجحف للغاية، لإجبار الحكومة على إجراء تعويم جديد للجنيه المصرى يتناسب وقيمته الحقيقة فى الأسواق المالية العالمية، والتى يرى الصندوق أنه يزيد بنحو 15% طبقا لتقييم المؤسسات المالية الدولية.
وهو الإجراء الذى كان من المستحيل الإقدام عليه، ورأت الحكومة فيه مجازفة غير محسوبة قد تضر بالاستقرار والسلام الاجتماعي المصرى، نظرا للتأثير المباشر على إرتفاع حجم التضخم والأسعار مرة أخرى، إلى جانب زيادة معاناة الفقراء أكثر مما هى عليه، وهو ما دفعها إلى التقدم لإدارة صندوق النقد باقتراح يقضى بتحريك قيمة الجنيه بشكل تدريجى على مدار مدة زمنية قد تمتد لعام أو أكثر، وبشكل لا يؤثر على الأسعار وحجم التضخم، وهو الاحتمال الأقرب للقبول وفقا لتوقعات وكالة موديز للتصنيف الائتماني، والذى قد يرهنه صندوق النقد بحجم التدفقات الدولارية الخارجية التى قد ترد لمصر من الاستثمارات مع دول الخليج خلال الفترة القادمة.
أما ثانى الشروط المجحفة التى فرضها الصندوق مع بداية المفاوضات، فقد تمثلت في الإصرار على إلغاء كافة أشكال الدعم الذي تقدمه الحكومة للمواطنين، بما في ذلك البترول والخبر والسلع التموينية، وهو الشرط الذى رأت الحكومة استحالة في الاقتراب منه في ظل الظروف الراهنة، مما جعل إدارة صندوق النقد تبدى مرونة بالموافقة على الإبقاء على الدعم بشرط تحويله من عيني إلى نقدى، يضمن وصوله إلى مستحقيه دون وجود وسيط، وهو إجراء محترم وسبق أن دعوت إلى تطبيقه في مقال سابق، ولا أرى مبررا للتلكؤ في تطبيقه سوى الإبقاء على منظومة من الفساد والفاسدين نجحوا في تكوين ثروات على حساب الشعب المسكين.
ولعل ما يدعونى لتأييد الشرط السابق، أن منظومة الدعم النقدى ستصب في صالح المواطن والحكومة معا، وستقضى على منظومة عقيمة لا تخلو من السرقات والعمولات، والتلاعب بمنظوم القمح والمطاحن والمخابز، وتوريد السلع الغذائية، وما يتبعها من فساد بعمليات النقل والتعبئة والتخزين، إلى جانب منح المواطن حرية الحصول على الخبز والسلع من المكان الذي يختاره، وخلق منافسة في الأسواق لتقديم سلعة ورغيف أكثر جودة، من خلال اختصار المنظومة بأكملها في دعم نقدي يقدم شهريا للأسر المستحقة يعادل قيمة ما تحصل عليه من خبز وسلع عينية.
كما لا أجد مبررا لاعتراض الحكومة على الشرط الثالث الذى وضعه صندوق النقد الذى كان أكثر واقعية وإدراكا لحقيقية المبادرات البنكية المصرية، التى تبدو في ظاهرها تشجيعا للصناعات والمشروعات الصغيرة، وفى باطنها مصدر لثراء اللصوص على حساب المال العام، حيث أصر صندوق النقد على إلغاء كافة المبادرات المطروحة من البنوك، وتوحيد أسعار الفائدة للجميع.
ورغم أننى لا أفترض سوء النية ولا أشكك في حسن نوايا الحكومة فيما يخص المبادرات البنكية التى تم طرحها خلال السنوات الأخيرة، إلا أن الواقع يؤكد أنه قد تم استغلالها أسوأ استغلال، وفى مقدمتها مبادرة البنك المركزي لتنمية المشروعات الصغيرة، التى منحت ومازالت تمنح ملايين الجنيهات بفائدة 5% للالاف من أصحاب المشروعات الصغيرة، غير أنه بدلا من أن تحقق المستهدف منها، تم توجيهها بمعرفة سماسرة تخصصوا في استخراج الأوراق المطلوبة تلك النوعية من المبادرات والقروض، مكنوا الكثيرين من الحصول قرض لمشروعات لا وجود لها على أرض الواقع، بل واستثمارها في شراء شهادات بنكية تدر عليهم عوائد تصل ل 18 و20%.
تلك كانت حكاية القرض، وحكاية الشروط والناس اللى ورا القرض.. وكفى.