هل الأرض الموقوفة للمسجد تمتد قدسيتها إلى السموات السبع.. الإفتاء تجيب
ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه"هل صحَّ أن الأرض الموقوفة للمسجد تمتد قدسيتها ومسجديتها إلى السموات السبع والأرضين السبع؟ والسؤال وارد من ماليزيا"، وجاء رد الدار على هذ السؤال كالتالي:
قدسية الأرض الموقوفة للمسجد
اختلفت عبارات الفقهاء في مسألة امتداد وصف المسجدية لأعلى المسجد وأسفله:
فالظاهر من عبارات فقهاء الحنفية أن شرط المسجدية أن يكون أعلى البقعة وأسفلها مسجدًا، قال العلامة ابن نجيم في "البحر الرائق" (5/ 271، ط. دار الكتاب الإسلامي): [شرط كونه مسجدًا: أن يكون سفله وعلوه مسجدًا؛ لينقطع حقُّ العبد عنه؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ﴾ [الجن: 18]] اهـ.
وجاء في "كنز الدقائق" للإمام النسفي وشرحه "تبيين الحقائق" للعلامة الزيلعي (3/ 330، ط. دار الكتاب الإسلامي): [... (ومن جعل مسجدًا تحته سرداب أو فوقه بيت، وجعل بابه إلى الطريق وعزله، أو اتخذ وسط داره مسجدًا، وأذن للناس بالدخول، فله بيعه ويورث عنه)؛ لأنه لم يُخْلَص لله؛ لبقاء حقِّ العبد فيه، والمسجد لا يكون إلا خالصًا لله؛ لِمَا تَلَوْنا، ومع بقاء حقِّ العبد في أسفله أو في أعلاه أو في جوانبه محيطًا به لا يتحقق الخلوص كله.
أما إذا كان السفل مسجدًا؛ فلأن لصاحب العلو حقًّا في السفل؛ حتى لا يكون لصاحب السفل أن يحدث فيه شيئًا من غير رضا صاحب العلو، وأما إذا جعل العلو مسجدًا؛ فلأن أرض العلو ملك لصاحب السفل، وليس له من التصرفات شيء من غير رضا صاحب السفل؛ كالبناء وغيره] اهـ.
وكذلك الحنابلة؛ فالظاهر أنهم يجعلون أيضًا العلو والسفل مسجدًا، قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (5/ 369-370، ط. دار إحياء التراث العربي): [قال أحمد في "رواية أبي داود"، في مسجد أراد أهله رفعه من الأرض، ويجعل تحته سقاية وحوانيت، فامتنع بعضهم من ذلك: فينظر إلى قول أكثرهم. واختلف أصحابنا في تأويل كلام أحمد؛ فذهب ابن حامد إلى أن هذا في مسجد أراد أهله إنشاءه ابتداءً، واختلفوا كيف يعمل؟ وسماه مسجدًا قبل بنائه تجوزًا؛ لأن مآله إليه، أما بعد كونه مسجدًا لا يجوز جعله سقاية ولا حوانيت. وذهب القاضي إلى ظاهر اللفظ، وهو أنه كان مسجدًا، فأراد أهله رفعه، وجعل ما تحته سقاية لحاجتهم إلى ذلك. والأول أصح وأولى، وإن خالف الظاهر؛ فإن المسجد لا يجوز نقله، وإبداله، وبيع ساحته، وجعلها سقاية وحوانيت، إلا عند تعذر الانتفاع به، والحاجة إلى سقاية وحوانيت لا تعطل نفع المسجد، فلا يجوز صرفه في ذلك، ولو جاز جعل أسفل المسجد سقاية وحوانيت لهذه الحاجة لجاز تخريب المسجد وجعله سقاية وحوانيت، ويجعل بدله مسجدًا في موضع آخر] اهـ.
وقال العلامة البهوتي في "كشاف القناع" من كتب الحنابلة (1/ 107-108، ط. دار الكتب العلمية): [هواء المسجد كقراره] اهـ.
أما المالكية فيرون أن أعلى المسجد مسجد، وأنه لا يجوز السكنى فوقه أو شغله بغير ما فيه معنى المسجدية، بخلاف أسفله، قال الإمام ابن الحاجب في "جامع الأمهات" (ص446، ط. اليمامة): [ويجوز للرجل جعل علو مسكنه مسجدًا، ولا يجوز جعل سفله مسجدًا ويسكن العلو؛ لأن له حرمة المسجد] اهـ.
وقال الإمام القرافي في "الفروق" (4/ 15-16، ط. عالم الكتب): [اعلم أن حكم الأهوية تابع لحكم الأبنية؛ فهواء الوقف وقف، وهواء الطلق طلق، وهواء الموات موات، وهواء المملوك مملوك، وهواء المسجد له حكم المسجد، فلا يقربه الجنب، ومقتضى هذه القاعدة: أن يمنع بيع هواء المسجد والأوقاف إلى عنان السماء لمن أراد غرز خشب حولها ويبنى على رءوس الخشب سقف عليه بنيان] اهـ.
وقال الإمام الحطاب في "مواهب الجليل" (5/ 420، ط. دار الفكر): [وتحقيق المسألة: أن المسجد لله إذا بناه الشخص له وحيز عنه فلا ينبغي أن يختلف في أنه لا يجوز له البناء فوقه] اهـ.
أحكام المساجد
ويرى الشافعية أيضًا أن هواء المسجد له حكم المسجد، وأنه يجوز شغل أسفله بغير المسجد، جاء في "المنهاج" للإمام النووي و"شرحه" للعلامة الجلال المحلي (1/ 268، ط. دار إحياء التراث العربي): [(ويحرم بها -أي: الجنابة- ما حرم بالحدث والمكث في) أرض أو جدار أو هواء (المسجد)] اهـ.
وقال العلامة الجمل في "حاشيته على شرح المنهج" (3/ 360، ط. دار الفكر): [ولا يجوز الإشراع في هواء المسجد] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (2/ 458، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(و) يصح وقف (العلو وحده) من دار أو نحوها، ولو مسجدًا] اهـ.
وعن الإمام أبي حنيفة أنه أجاز أن يكون الأسفل مسجدًا والأعلى ملكًا؛ لأن الأسفل أصل وهو يتأبد، ولم يجز عكسه.
وعن الإمام محمد بن الحسن عكسه؛ لأن المسجد معظم، ولا تعظيم إذا كان فوقه مُسْتَعْلٍ أو مسكن، بخلاف العكس.
وعن القاضي أبي يوسف أنه أجاز الوجهين حين قدم بغداد ورأى ضيق الأماكن، وروي عن محمد مثله حين قدم الري. انظر: "تبيين الحقائق" (3/ 330).
وجاء في "فتاوى العلامة الشيخ حسنين محمد مخلوف" مفتي مصر الأسبق بتاريخ: 14 من صفر 1369هـ الموافق 5 من ديسمبر 1949م ما نصه -وقد سئل عن إقامة مشروع فوق مسجد-: [المسجد يجب أن يكون خالصًا لله تعالى؛ لقوله عز وجل: ﴿وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ﴾ [الجن: 18]، فأضافها إليه تعالى مع أن كل شيء له؛ ليدل بذلك على وجوب أن تكون خالصة له. ومن هذا كان ظاهر الرواية عند الحنفية أنه لو بنى فوق المسجد أو تحته بناءً لينتفع به لم يصر بهذا مسجدًا، وله أن يبيعه ويورث عنه، أما لو كان البناء لمصالح المسجد فإنه يجوز ويصير مسجدًا؛ كما في "الدر المختار" و"حاشيته" و"الفتاوى الهندية" وغيرها، هذا قبل أن يصير مسجدًا، أما بعده فلا يمكن أحد من البناء عليه مطلقًا.
ونقل ابن عابدين عن "البحر" ما نصه: وحاصله: أن شرط كونه مسجدًا أن يكون سفله وعلوه مسجدًا؛ لينقطع حق العبد عنه؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ المَساجِدَ للهِ﴾ [الجن: 18]، بخلاف ما إذا كان السرداب والعلو موقوفًا لصالح المسجد، فهو كسرداب بيت المقدس، هذا هو "ظاهر الرواية" انتهى. ونقل عن الصاحبين أنه يجوز أن يكون سفل المسجد أو علوه ملكًا بكل حال ينتفع به الباقي أو يخصص لمصالح المسجد إذا اقتضت الضرورة ذلك؛ كما في البلاد التي تضيق منازلها بسكانها.
وعلى هذا: إذا كانت هناك ضرورة تدعو إلى المشروع المسؤول عنه فلا بأس بالأخذ بقول الصاحبين في الرواية المذكورة عنهما؛ لأنها تتفق مع قواعد المذهب؛ كقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات"، وقاعدة "المشقة تجلب التيسير"، وغيرهما، وهذا مقرر في قول الله عز وجل: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَج﴾ [الحج: 78]. والله تعالى أعلم] اهـ.