الصدر المضحي يُربك الجميع
يدفع العراق وشعبه ثمنًا باهظًا من استقراره ونهضته ودماء الأبرياء وتبديد ثرواته، في ظل التناحر على السلطة بين الأحزاب والمليشيات والتيارات، التي لكل منها أجندة ممولة غالبًا من أطراف خارجية، بهدف الإمساك بالسلطة لصالح أصحاب التمويل. تعمدت الولايات المتحدة، حين احتلت العراق وأنهت حكم صدام حسين، جعل العراق يدور في فلك ثلاث رئاسات طائفية تتقاسم السلطة، بحيث يكون رئيس الجمهورية كرديًا وسلطته شرفية، ويتولى رئاسة البرلمان سنيًا وهو أيضًا لا يملك سلطة فعلية، وهي التي يملكها رئيس الحكومة الذي يجب أن يكون شيعيًا.
بعد أشهر من التعثر وغموض المشهد السياسي منذ الانتخابات النيابية في أكتوبر الماضي، وعدم الاتفاق على رئيس حكومة يقود العراق، استغل رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، رئيس ائتلاف دولة القانون، إحياء الشيعة يوم عاشوراء، وألقى كلمة عارض فيها حل البرلمان والانتخابات المبكرة، التي دعا إليها رئيس التيار الصدري، السيد مقتدى الصدر، ودعا المالكي إلى استئناف جلسات البرلمان بعد أن غادره المحتجين. رد مقتدى الصدر، في عاشوراء، على كلمة المالكي: "تالله لا يحكم فينا الفاسد ومثلي لا يبايع الفساد".
يمكن إيجاز ما يجري في العراق بأنه صراع إيراني بأيدي عراقية، فأحزاب وفصائل الإطار التنسيقي الشيعي ممولة بالكامل من الحرس الثوري الإيراني وتدين له بالولاء وهي متشددة مثله، بينما تدعم المخابرات الإيرانية تيار الإطلاعات الشيعي الإصلاحي الذي يضم تيار مقتدى الصدر، رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي.
لم يستطع الحرس الثوري الإيراني، الإمساك بالقرار العراقي مثلما كان أيام قاسم سليماني، وبعد اغتياله تراخت القبضة وسعت المخابرات الإيرانية لملء الفراغ ودعم الإصلاحيين، من هنا سربت المخابرات الإيرانية تسجيلات نوري المالكي ضد قادة وزعماء العراق، والتي مثلت صفعة للحرس الثوري والفصائل الموالية له "الإطار التنسيقي"، وبناء على التسريبات أسقط التحالف الصدري الكردي مرشح الحرس الثوري لرئاسة الحكومة نوري المالكي، ومن بعده محمد شياع السوداني، مثلما رفض المالكي ومن معه الأسماء التي رشحها مقتدى الصدر لرئاسة الحكومة، بعدما فاز التيار الصدري بالأغلبية البرلمانية.
تغيير النظام الطائفي
استمرار الأزمة جعل مقتدى الصدر يضحي بفوزه الكبير، وأمر نواب تياره بالاستقالة من البرلمان وإخلاء الساحة للخصوم، على أن يدير المعركة من خارج البرلمان ليُربك الجميع ويخلط حساباتهم ويكسب بانسحابه احترام الفصائل الأخرى بما فيها أعضاء في "الإطار التنسيقي" ذاته، حتى أن رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، حياه على موقفه قائلًا: "شكرًا بحجم العراق للسيد مقتدى الصدر، المضحي بلا ثمن، والحاضر دائما بلا غياب".
أعلن مقتدى الصدر، مشروعه الإصلاحي داعيًا لحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، ومحاسبة الفاسدين. رفض المالكي وبعض مواليه مطالب الصدر باعتبار أنها تخلق أزمة سياسية وتهدف إلى الإبقاء على حليفه مصطفى الكاظمي رئيسًا للحكومة، لكن قادة بارزين في "الإطار التنسيقي" عارضوا المالكي وأيدوا إصلاحات الصدر، منهم رئيس "تحالف الفتح" هادي العامري، ورئيس "تحالف النصر" حيدر العبادي.
استبق مقتدى الصدر، يوم عاشوراء، ملقيًا أخطر خطاباته منذ إسقاط نظام صدام حسين، واعتماد نظام المحاصصة الطائفي، إذ قال صراحة لإيران ومليشياتها إن "العراق عاصمة التشيّع في العالم الإسلامي ومرجعيتنا السيد علي السيستاني في مدينة النجف وليس قم الإيرانية".
كما رفض مقتدى الصدر عرضًا إيرانيًا لتوحيد شيعة العراق، قائلا إن "العراق العاصمة الأولى للتشيع، وعلى الآخرين الرجوع له، لا أن يكون تابعًا لهم، نحن نطالب بوحدة الصف القائمة على حب الوطن ونبذ التبعية والإصلاح الحقيقي ومحاسبة الفاسدين، وعكس صورة مشرقة للمذهب الشيعي، ليس بالعنف والتسلط والظلم".
وشرح مقتدى الصدر، في خطابه المتلفزة، خطة من ثلاث مراحل، لتغيير النظام الطائفي العراقي ومحاكمة رموزه، حل البرلمان، إلغاء الدستور الحالي، وبدء تصحيح المسار، وهو ما أيده "حراك تشرين" الذي قاد ثورة شعبية قبل عامين، مضيفًا عليه استرداد المليارات المنهوبة ومحاكمة كبار الفاسدين وضمان عدم عودة الوجوه القديمة للحكم. كما أيد زعماء السنة والأكراد مشروع الصدر، وكذلك رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، والأطراف التي نكلت بها إيران وحلفاؤها خلال الأعوام الماضية، بينما رفضه "الإطار التنسيقي" بقيادة نوري المالكي، ويترقب الجميع رد فعل الفصائل المسلحة الموالية لإيران بعد أن حظي الصدر بتأييد الشارع.
انسداد الأفق السياسي وفشل قادة كردستان العراق في تسمية رئيس الجمهورية، وتعليق جلسات البرلمان لعدم الاتفاق على رئيس الحكومة، دعا وزارة الخارجية الأميركية إلى اعتبار أن العراق وصل إلى طريق مسدود، وقالت إن "العراق يحظى باهتمامنا وندعم العلاقات ونقدّم لهم مشورات جيدة، لكننا ضد دعوتهم لنا للتورط في الأزمة وحل المشاكل". أخيرا لن تحل أزمة العراق، حتى يتفق الشيعة على رئيس حكومة ترضى عنه الولايات المتحدة وفي الوقت نفسه لا يخالف الإرادة الإيرانية.