رغيف البطاطا
أزمة القمح التى تتعرض لها مصر فى الوقت الحالي تؤكد أن حكومة الدكتور مصطفي مدبولي تفتقد للحس السياسى وحنكة إدارة الأزمات، ولاسيما وأن الأرقام تؤكد أننا حتى شهور قليلة كنا نعتمد على روسيا وأوكرانيا فى توريد ما يقرب من 80% من حاجة البلاد من القمح، فى الوقت الذى كانت كل المؤشرات تؤكد منذ ما يزيد عن العام قرب اندلاع مواجهة بين الدولتين.
ولعل ما يدعو للأسف فى الأزمة التى نعانيها الآن، والتى وصلت إلى حد إعلان الحكومة دراسة إضافة البطاطا إلى دقيق الخبز، أننا لم ننتبه منذ سنوات لجرس الإنذار الذي أطلقته الأزمات العالمية خلال السنوات الماضية، والذى كان كفيلا بضرورة الانتباه لحماية الأمن الغذائي المصري والتوجة نحو الاكتفاء ذاتيا من القمح، أو تدبير احتياجات البلاد منه قبل اندلاع الحرب على أقل تقدير.
وحتى نعلم مدى خطورة الأزمة التي وضعتنا فيها سوء التقديرات وافتقاد الحس السياسى، فإن الأرقام الرسمية المعلنة تؤكد أن مصر تستهلك سنويا ما يتراوح بين 18 و20 مليون طنا من القمح، لتلبية احتياجات نحو 103 ملايين مصري، يستهلك كل منهم سنويا نحو 183 كيلو جراما من القمح، وسط توقعات بأن يرتفع حجم الاستيراد هذا العام إلى 23 مليون طن، بزيادة 2.1% عما تم استيراده في موسم الماضي، بسبب زيادة عدد السكان.
مشكلات الفلاح
في الوقت الذي لا تزال فيه المساحات المزروعة بالقمح في البلاد لا تزيد عن 3 ملايين و659 ألف فدانا فقط، كان متوقعا أن تصل انتاجيتها هذا العام نحو 10 ملايين طن، أى ما يعادل 50% فقط من احتياجات البلاد، التي استوردت في عام 2021 ما يزيد عن 18 مليون طن من القمح، غير أن ما تم توريده حتى الآن من الانتاج المحلى لم يتجاوز ال 5 ملايين طنا، أى اقل بنسبة 50% عما كان متوقعا، وهو ما يجعل من مبلغ ال 12 مليار جنيها الذى حددته وزارة المالية كقيمة لاستيراد القمح فى الموازنة الجديدة ضئيلا للغاية، خاصة فى ظل الارتفاع الكبير في أسعار القمح في الأسواق العالمية، والانخفاض الكبير فى توريد القمح المحلى.
الواقع يؤكد أننا في أزمة قد تكلفنا الكثير بسبب سوء التقديرات وافتقاد الحس السياسى، غير أن الواقع على الأرض وحتمية مواجهة التحديات التى تقف سدا منيعا أمام تحقيق الإكتفاء الذاتي من القمح منذ قرون تقاضى الاعتراف بضرورة وجود إرادة، لم تتوافر للأسف لكل الحكومات التي تعاقبت على مصر طوال السنوات الماضية للتغلب على تلك التحديات، التى يأتي على رأسها ضرورة الخلاص من مافيا إستيرد القمح بالبلاد، والتى وقفت على مدار عقود أمام كل خطوات التوسع في زراعة القمح حفاظا على ما تجنيه من ثروات خرافية، على حساب بقاء مصر رهينة لقرار الخارج.
كما تحتم حسن إدارة الأزمة، ضرورة الاستفادة من دروس الماضى والاقتراب من مشكلات المزارعين التى جعلتهم ينصرفون عن زراعة القمح، وفى مقدمتها تحديد سعر عادل لتوريد القمح المحلى، يعود بمردود قيم يشعر الفلاح بقيمة منتجه، حتى وإن كلفنا هذا ضعف فاتورة الاستيراد، فى الوقت الذى ستظل فيه نتائج دراسة مشكلات الفلاحين التى أعلنت الحكومة الانتهاء من اعدادها مجرد تصريحات، مرهونة بقرارات تتحقق على الأرض ويشعر الفلاح بمردودها.
كما تفرض تحديات الحفاظ على الأمن القومى المصرى والإكتفاء ذاتيا من القمح، ضرورة الانتباه لإضافة مساحات جديدة إلى البقعة الزراعة المنزرعة بالقمح، تتعدى ما أعلنت عنه الحكومة من إضافة 3.5 مليون فدان جديدة خلال السنوات ال 3 القادمة، ضمن خطة شاملة تستهدف إضافة 5 مليون فدان جديدة للمساحات المنزرعة بالقمح، إلا أن تلك التصريحات ستظل أيضا مجرد أمنيات مصحوبة بالدعوات إلى أن تتحقق على أرض الواقع.
كما تفرض تحديات تحقيق الإكتفاء الذاتي من القمح وتلاشى ما نحن فيه الآن، ضرورة احترام الحكومة لكافة نتائج الدراسات المبهرة التى انتهى إليها علماء الزراعة فى مراكز الأبحاث والجامعات المصرية، والتى خرجت بسلالات جديد من التقاوى، تمكن المزارع من تحقيق إنتاجية أكبر فى كل الأراضي على إختلاف طبيعتها، مع ضرورة التوسع في تنمية المصادر غير التقليدية للمياه، في ظل استهلاك الإنتاج الزراعى لنحو 85% من حصة مصر من مياه النيل، وتطوير خطة العمل بالمشروع القومى لتطوير وتحديث الصوامع، للوصول بالسعة التخزينية إلى أكثر من 20 مليون طن، بدلا من الطموح المحدود للمشروع الحالى الذى يستهدف الوصول إلى 4.5 مليون طن فقط.
الواقع يقول أن حكومة الدكتور مصطفي مدبولي لم تحسن إدارة الأزمة، وافتقدت للحس السياسى رغم وجود مؤشرات، غير أن الاكتفاء الذاتي من القمح سيظل آمنا قوميا مرهون بإرادة سياسية تطمح لضمان حرية قرارنا الوطنى، أرى في النظام الحاكم في مصر الآن -دون تحيز- قدرة على تحقيقها.. أتمنى.