رئيس التحرير
عصام كامل

البداية سريلانكا والآتي أعظم

يتميز ثعلب السياسة هنري كيسنجر، بنظرة ثاقبة ورؤية مستقبلية للعالم قلما تخيب، ومن بين أقواله "من يملك سلاسل الغذاء سيتحكم في الشعوب، ومن لديه مصادر الطاقة سيسيطر على القارات، ومن يدير المال ويتحكم فيه سيخضع له العالم كله". هذا الرأي الموجز لم تتوقف عند مغزاه حكومات العالم الثالث ولا جيوش مستشاريها، رغم أن بلدانهم تتصدر قائمة الدول المستهدفة بعدم الاستقرار في العالم ومؤامرات النخبة التي تحكم الكوكب وتريد تقليل البشرية والاكتفاء بالأثرياء وبعض الفئات التي تفيد رؤاهم للعالم الجديد.

 

لم تؤت مؤامرة فيروس كورونا ومتحوراته، النتائج التي خطط لها من يحكمون العالم، فانتقلوا إلى مرحلة ثانية لتقليل البشر بإحداث ثورة جياع تنشر الفوضى والخراب في بعض الدول وفي الوقت ذاته يقل عدد السكان نتيجة الجوع والغلاء ونقص إمدادات الغذاء، ولتحقيق الهدف استفزوا روسيا وهددوا أمنها القومي بإعلان ضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وحاول الرئيس بوتين التفاهم معهم وصولا إلى حل، لكنهم رفضوا ودفعوه إلى الحرب، لمضاعفة أسعار الطاقة من ناحية ومنع إمدادات الحبوب والغذاء من ناحية ثانية، ما يؤدي إلى انهيار اقتصاد عشرات الدول الفقيرة، ثم تعمدوا إطالة أمد الحرب بدعم أوكرانيا وإمدادها بالسلاح، لكي تزداد أوضاع الدول المستهدفة سوء.

 

أزمة سريلانكا

 

أشعل الغلاء وصعوبات الحياة احتجاجات شعبية بدرجات متفاوتة في إيران وسريلانكا ثم إيطاليا وألبانيا وهولندا وكذلك الأرجنتين والحبل على الجرار، حتى يمتد إلى الدول المستهدفة وهي بالعشرات في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، في مقدمتها الدول كثيرة الاقتراض من صندوق النقد والبنك الدولي، وكثيرة الاستيراد خصوصا المواد الغذائية والطاقة، حيث سيزيد الضغط عليها حتى تعجز عن سداد أقساط ديونها ولا تستطيع تدبير احتياجات شعبها من الطاقة والغذاء، فتعلن الانهيار الاقتصادي وربما الإفلاس مثلما حدث في سريلانكا، ويراد تكراره بصور عدة في عشرات الدول المستهدفة، بحيث تنتهي إلى فوضى وثورة جياع.  

 

بالعودة إلى سريلانكا، أججت الأزمة الاقتصادية الغضب في الشوارع، وأدى ارتفاع التضخم إلى نقص المعروض من الأطعمة والأدوية والوقود فضلا عن انقطاع الكهرباء، وحمل الشعب عائلة راجاباكسا وحكومتها مسؤولية الانهيار، خصوصا إنها تحكم البلد منذ 20 عامًا، لكن سوء الإدارة الاقتصادية أدى إلى إفلاس البلد، فأوقفت الحكومة بيع البنزين والسولار للمركبات، في محاولة للحفاظ على مخزون الوقود المتضائل، وسعت الحكومة لتأمين الوقود والطاقة عن طريق الائتمان من دول بينها روسيا ولم تنجح.

 

دفعت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة الشعب إلى الاحتجاج منذ مارس الماضي، داعيًا إلى استقالة الرئيس غوتابايا راجاباكسا، بعدما أجبرت شقيقه الأكبر ماهيندا راجاباكسا، على الاستقالة من رئاسة الوزراء في مايو الماضي، رغم أن الشعب اعتبرهما من الأبطال لنجاحهما في إنهاء حرب أهلية دامت 26 عامًا، وكان رئيس الجمهورية وقتها وزيرا للدفاع. لكن الانهيار الاقتصادي جعل الشعب يتهم الرئيس وحكومته والنُخب السياسية بسوء الإدارة التي أفلست سريلانكا.

 

يجاهد الشعب ويعاني لتأمين أبسط متطلبات الحياة ولا يجدها، حتى النوم عز عليه في ظل انقطاع الكهرباء 13 ساعة يوميًا رغم الطقس اللاهب صيفا، ولم تتمكن الحكومة من تقليل ساعات فصل الكهرباء بعد إفلاسها ونضوب احتياطات الوقود والطاقة. الطوابير الطويلة صارت سمة في سريلانكا؛ ويضطر الشعب لشراء السِلع الضرورية بأضعاف سعرها لسد رمقه، وفي الشوارع امتدت طوابير السيارات والتوك توك للتزود ببعض الوقود، فتحدث اختناقا في الطرق ويتعطل الجميع عن السعي وراء رزقه.

 

وأدى انخفاض قيمة الروبية السريلانكية وارتفاع التضخم إلى مضاعفة أسعار الأغذية وأجرة النقل وغاز الطهي والملابس والكهرباء، ما اضطر أسر كثيرة إلى استخدام مواقد الطهي بالحطب بدلا من الغاز لإعداد أبسط الوجبات الخالية من اللحوم والدواجن والأسماك. كما أغلقت المدارس أبوابها، لعدم وجود وقود للوصول إليها. بينما تعمل المستشفيات بأدنى امكانياتها لعدم وجود أدوية، وقد توفي شابًا صغيرًا من لدغة ثعبان لأن احتياطي المستشفى من ترياق للسُم نفد، وماتت مولودة تعاني من الصفراء لعدم وجود مركبة تنقلها إلى المستشفى، أما القطارات فأصبح استقلالها رحلة عذاب واختناق يومي، لذا تحول كثير من الموظفين إلى الدرّاجات الهوائية للذهاب إلى مقارّ أعمالهم.

 

 

تفاقم الأزمة والجوع أدى لزيادة معدل الانتحار وتسبب في فوضى الشارع واقتحام المحتجين قصر الرئاسة والعبث بمحتوياته وحرق مقر إقامة رئيس الوزراء، فقرر الرئيس راجاباكسا التنحي وكذلك رئيس الوزراء لعجزهما عن تأمين القليل من احتياجات الشعب، الذي أمسك ببعض المسؤولين وقيدهم في الشوارع وانهال عليهم ضربًا ولم تستطع الشرطة إنقاذهم. ما حدث في سريلانكا بمثابة درس قاس وجرس إنذار للدول المستهدفة، لعل حكوماتها تفيق من غفلتها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لأن الآتي أعظم.

الجريدة الرسمية