الولايات المنقسمة
تنامت النزعة القومية، في أوروبا وآسيا ولم تنج منها أفريقيا والولايات المتحدة، رفضًا لأقليات دخيلة على المجتمع سيكون لها تأثيرات مدمرة في غضون سنوات قليلة، من هنا تفوق اليمين ولايزال في الانتخابات لتأييده القومية ومعارضته شعارات منظمات حقوق الإنسان، التي أيدت مطالب الإثنيات والأقليات وضغطت على الدول لتلبيتها، فنظمت بعض تلك الأقليات صفوفها وزاد تأثيرها إلى أن طالبت بتوزيع سلطة الدولة والاستقلال المحلي بمعنى تقسيم الدولة، وهذا تحديدا ما تخشاه أحزاب اليمين وتصر على قومية دولها خشية تفكيكها وتقسيمها إلى دويلات وأعراق.
أقرب نموذج للتقسيم والانفصال ما قاله أخيرًا زعيم صرب البوسنة، ميلوراد دوديك، من إنهم "ينتظرون الظروف العالمية المواتية لإتمام الانفصال عن البوسنة لأنها دولة غير مستدامة، رغم إحلال السلام بعد حرب مدمرة مطلع التسعينات، لكن الاتفاق الذي أنهى الحرب مقابل تشكيل كيانات صرب البوسنة والبوشناق - الكروات المرتبطة ببعضها البعض من خلال مؤسسات مشتركة ورئاسة ثلاثية لا يمكن أن يستمر وسيتخذ الصرب قرار الانفصال بنصف البوسنة".
تزامنت تصريحات زعيم الصرب، مع إعادة المطالبة بانفصال ولايات أميركية عن الاتحاد واستقلالها في جمهوريات ذات سيادة، وسط أزمات متزايدة واستقطاب سياسي وشعبي يواكب اقتراب موعد الانتخابات النصفية، ويأخذ مسؤولون هذه الدعوات بجدية، لأنها يمكن أن تخلق صراعًا مسلحًا بين ميليشيات وحركات قومية في ظل انفلات السلاح والانقسام السياسي والاجتماعي والتفاوت الطبقي.
دعوات الإنفصال
كما استعاد القادة الحرب الأهلية الأكثر دموية في الولايات المتحدة بين عامي 1861 و1865، لمطالبة حركات انفصالية في 11 ولاية جنوبية سعت لتأسيس ولايات كونفدرالية، محذرين من حرب جديدة مع مطالبة تكساس بالانفصال لتصبح دولة ذات سيادة، ودعوة الحزب الجمهوري في الولاية لإجراء استفتاء بشأن الانفصال العام المقبل، لاسيما أن الولاية لديها مقومات القيادة وموارد اقتصادية كبيرة، فضلا عن أن الولايات المتحدة ليست أمة منصهرة ولا تجمعها قومية واحدة ولا حتى هوية وعادات وتقاليد متشابهة؛ لذا فأمر تفككها حتمي وسيحدث عاجلا أو آجلا.
تجاهلت الدعوة للانفصال أن موارد تكساس الطبيعية واقتصادها المزدهر، هي الأساس في رفض الاستقلال وأي محاولة ستواجه بعنف وقسوة حتى لا تحذو حذوها ولايات أخرى وينفرط عقد الاتحاد الفيدرالي، الذي يواجه مشكلات غير مسبوقة منها ارتفاع معدل التضخم، انفلات السلاح، الهجرة، زيادة أسعار الوقود، التوظيف، كارثية الانسحاب من أفغانستان وتسليمها لطالبان، التنازلات لإيران والتخلي عن الحلفاء، التحديات الصحية ومواجهة الأوبئة، اختلاق مشكلات مع روسيا والصين، ما أدى إلى تدني شعبية الرئيس بايدن، الذي ترفض الولاية الاعتراف به لأنه "لم يُنتخب بشكل شرعي وجاء للرئاسة بتزوير الانتخابات".
استغل أعضاء الحزب الجمهوري في تكساس، غضب الشعب وسوء إدارة بايدن، ودفعوا باتجاه تنظيم الاستفتاء حول الانفصال العام المقبل، وأعلنت حركة تكساس القومية سعيها لتحقيق "الاستقلال السياسي والثقافي والاقتصادي لأمة الولاية وحماية جمهورية دستورية وحقوق الشعب".
تمكنت أعراق وطوائف من الانفصال إلى دول مستقلة في مناطق عدة بالعالم منها أفريقيا، لكن الأمر بالغ الصعوبة والتعقيد في الولايات المتحدة، لأن القانون ينص على أن "تكساس لا تترك الاتحاد، فالاندماج كامل ودائم وغير قابل للإلغاء إلا من خلال الثورة أو بموافقة الولايات الأخرى"، خصوصا أن تكساس كانت ولاية رقيق تابعة للمكسيك، ناضلت واستقلت وانضمت إلى الاتحاد الفيدرالي في 1845، ولم تتمكن من الانفصال عنه وخاضت حربا أهلية لذلك دون جدوى.
لم تمنع تعقيدات الانفصال قيادات الحزب الجمهوري، من الحث الدائم على تقاسم المناطق، لصعوبة التفاهم مع الديموقراطيين، وقول سيناتور تكساس الجمهوري تيد كروز إن "على الولاية أن تأخذ بترولها ووكالة ناسا الفضائية وتغادر الاتحاد"، كما دعت الكاتبة بوني كريستيان، قبل فترة، لتقسيم الولايات المتحدة إلى 7 دول، بينها تكساس ثاني أكبر ولاية من حيث المساحة وعدد السكان.
ضمت دعوات الانفصال أيضًا كل من آلاسكا وكاليفورنيا، من قبل اليمين والقوميين واتخذ شكلا عشائريا في مواجهة الآخرين، لا سيما من حركة "نعم كاليفورنيا" التي ترى أنها الولاية الأكثر تطورا وثراء في الاتحاد الفيدرالي، ومن حقها الاستقلال كدولة ذات سيادة.
لا يمانع خبراء من الاحتجاج وإجراء استفتاء على الانفصال كنوع من الممارسة الديمقراطية، لكن عند بلوغه مرحلة الاستقلال سيتدخل الجيش والشرطة لضبط الأمور ومنع الانفصال، لأن الولايات المتحدة ليست أفريقيا أو آسيا حتى تستقل ولاياتها، صحيح الاستقطاب واضح والانقسام شديد لكن لن يسمح بوصوله إلى تفكك الاتحاد مثلما حدث مع الاتحاد السوفياتي، نظريا يحق لأي ولاية الانفصال، لأن الولايات المتحدة دولة كونفدرالية، لكن عمليا لن يسمح بذلك مهما كلف الأمر، لذا تسعى الولايات المتحدة عن طريق منظمات حقوق الإنسان لمواجهة تنامي النزعة القومية والشعبوية بدعوى أنها تهدد الديمقراطية وحقوق الإنسان.