مدرسة الشاذلي (3) ياقوت العرش.. بشارة الشيخ
لم تكن بشارة أبي الحسن الشاذلي بقدوم أبي العباس المرسي هي البشارة الوحيدة في تلك المدرسة، التي صارت الأهم في تاريخ التصوف الإسلامي. فقد استيقظ المريدون ذات صباح على شيخهم وقد تهللت أساريره، وغمرت السعادة وجهه وأعد عصيدة لعموم الفقراء والمساكين. فقيل له: يا شيخنا إن العصيدة لا تكون إلا بالشتاء ونحن بالصيف؟ أجاب: هذه عصيدة ابننا ياقوت، وُلد اليوم ببلاد الحبشة.
أما كيف انتقل ياقوت بن عبدالله الحبشي من بلاد الحبشة إلى الإسكندرية؟ فتلك حكاية أخرى سكتت عنها كثير من كتب التراجم، بينما نقلتها بعض الروايات. فقد قيل إنه بعد مرور بضع سنوات اشترى أحد تجار الرقيق العرب ياقوتًا ومعه عبيد آخرون.
نجاة ياقوت
ولما اقتربت سفينته من ساحل الإسكندرية هاج البحر، وأوشكت السفينة على الغرق، فنذر التاجر إن نجا أن يمنح هذا الغلام لسيد الاسكندرية ووليها الأكبر أبي العباس المرسي. وحين أراد التاجر أن يفي بنذره وجد الطفل مصابًا بطفح جلدي فاستحى أن يقدم هدية على تلك الهيئة واستبدله بغلام آخر، فلما ذهب به إلى الشيخ أبي العباس رفض استلامه..
وقال: العبد الذي عينته غير هذا، فأحضر التاجر ياقوتًا، وقال: ما تركته إلا لما ترى، فأجابه أبو العباس: هذا هو الذي وعدتنا به القدرة، فأخذه ورباه وأعتقه حتى كمل حاله في الطريق، وأُذن له في تربية المريدين، وسماه ياقوت العرشي؛ لأن قلبه كان معلقًا بعرش الرحمن، وقيل لأنه كان يسمع أذان حملة العرش من الملائكة.
صحب ياقوت العرش الشيخ أبي العباس المرسي، وتزوج من ابنته، وقد ترقى في مقام الولاية حتى حاز مقام الغوثية، وهو المقام الذي انتقل من أبى الحسن إلى أبي العباس ثم إلى ياقوت، حتى صار كما أورد السيوطي في حسن المحاضرة، مقصدًا للدعاء والتبرك، ذا هيبة ووقار. قيل فيه: "إذا شاهدته شهدت له بالولاية، وإذا شاهدك أشهدك الهداية".
نور الولاية
أما ابن الملقن في طبقات الأولياء فيقول: إن الشيخ أبا العباس المرسي كان يثني عليه ويقول: "هذا هو الياقوت البهرمان"، وقال عنه الشيخ مكين الدين الأسمر، أحد تلامذة أبي الحسن الشاذلي: رأيت نور الولاية عليه.
وُيحكي أنه دخل وبصحبته ابن عطاء الله السكندري، والإمام البوصيري صاحب البردة، على الإمام أبي العباس المرسي، فقال لهم أبو العباس: اسألوا ما شئتم يحققه الله لكم، فقال البوصيري: أريد ان أمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يمدحه أحد من قبل ولا من بعد، فأجابه: لك ذلك، فقال ابن عطاء الله: أريد أن تنفتح ينابيع الحكمة من قلبي فأعبر عنها بأوجز عبارة وألطف إشارة، فقال له: لك ذلك، أما ياقوت العرش فقال: أما أنا فأريد أن أكون أنت. فقال له المرسي: لك ذلك، وفي هذا إشارة إلى تلك الوراثة المنتقلة من أبي الحسن إلى تلميذه أبي العباس، ومنه إلى تلميذه ياقوت.
وعد الشيخ
وقد تحقق وعد أبو العباس المرسي، إذ صنّف ابن عطاء الله الحكم العطائية التي بلغت حد الإعجاز في دقة معانيها وجزالة لفظها وإيجاز عباراتها، وصار البوصيري صاحب أشهر مديح نبوي في التاريخ الإسلامي بقصيدته البردة. بينما حظي ياقوت العرش بما اختص به السيد أبي العباس المرسي من مقام ولايته الخاصة في عالم الباطن وفقا للأدبيات الصوفية.
وعلى الرغم من ندرة المعلومات التي تناولت حياة ياقوت العرش الذي لم يترك مؤلفًا مكتوبًا، شأنه في ذلك شأن أساتذته الذين قالوا في ذلك: كتبي أصحابي، فإن ثمة روايات شفهية تناقلها عنه تلاميذه من أبناء مدرسة الإسكندرية، منها تلك الرواية التي يثبتها محمد بن عجيبة في شرحه على حكم ابن عطاء الله السكندري من أن أحد الأشراف -المنتسبين لآل بيت النبي- شاهد موكبًا لياقوت العرش، وقد التف الناس من حوله يسارعون إلى تقبيل يديه، فقال في نفسه: "أيحظى العبد الحبشي بكل هذا التقدير ويتجاهلون من ينتسب لآل بيت النبي"، فإذا بياقوت يترجل من فوق حصانه ويقبل يديه، ثم يجيبه: "اتباعي لجدك قربني منه". وتزوج شمس الدين اللبّان من ابنة ياقوت، ولما مات أوصى أن يدفن عند قدمها إجلالا لوالدها.
رموز المدرسة الشاذلية
وقد تتلمذ على يد ياقوت العرش عدد كبير من رموز المدرسة الشاذلية، من بينهم ابن عطاء الله السكندري، ومحمد بن سعيد البوصيري صاحب البردة، وشمس الدين اللبان. وعلى الرغم من أن لقاءً جمع ما بين الشيخ ياقوت والرحالة الشهير ابن بطوطة، إلا أن ابن بطوطة لم ينقل من أخباره شيئًا، وإنما نقل على لسانه قصة وفاة الشيخ أبي الحسن الشاذلي ودفنه في حميثرة، واكتفى بقوله: "ومنهم الشيخ ياقوت الحبشي من أفراد الرجال وهو تلميذ أبي العباس المرسي وأبي العباس تلميذ ولي الله تعالى أبى الحسن الشاذلي الشهير ذي الكرامات الجليلة والمقامات العالية".
توفي ياقوت العرش في عام 732 هجريًّا، وفي رواية الشعراني في الطبقات 707 هجريًّا. وقد بني حول المقام مسجد عظيم صار اليوم مزارًا لكل عشاق ياقوت العرش، إلى جانب مقام ومسجد صهره المرسي أبو العباس، وباقي مقامات الأولياء الموجودة في حي بحري.
ومن الطريف أن الشاعر السوداني الراحل محمد الفيتوري قد سكن بحي بحري في طفولته وصباه، وكان يمر على مسجد ياقوت العرش في طريقه لمدرسته، ويزوره مع والده، فأحبه، وكتب فيه لاحقا أجمل قصائده، وهي قصيدة ياقوت العرش، التي قال فيها:
"تاج السلطان الغاشم تفاحة
تتأرجح أعلى سارية الساحة
تاج الصوفي يضيء
على سجادة قش
صدقني يا ياقوت العرش
إن الموتى ليسوا هم
هاتيك الموتى
والراحة ليست
هاتيك الراحة.