رئيس التحرير
عصام كامل

مدرسة الشاذلي (2).. المرسي بين دروب الأرض والسماء

قال عنه شيخه أبو الحسن الشاذلي: "أبو العباس أعرف بدروب السماء عنه بدروب الأرض".. رضي الله عن الشيخين الكبيرين. هو واحد من العلماء الأتقياء الذين جمعوا بين علوم الشريعة والحقيقة، فصار من العارفين المشهود لهم بالولاية من القاصي والداني، بل أصبحت الإسكندرية على عظمتها تعرف به.  إنه سيدي أبو العباس المرسي، أو كما يسميه أهل الإسكندرية "المرسي أبو العباس".

ابن الأندلس

من بلاد الأندلس أتى.. فقد ولد، رضي الله عنه، في مدينة "مرسيه" عام 616 هجريًا – 1219 ميلاديًا، وهى إحدى مدن الأندلس فنسب إليها، وقيل "المرسي". تحدث عن سيرته أحد تلامذته من كبار العلماء وصاحب الحِكَم سيدي أحمد بن عطاء الله السكندري المالكي، الذي قام بتأليف كتاب عن سيرة أبي العباس المرسي، وشيخه القطب الكبير أبي الحسن الشاذلي وأسماه كتاب "لطائف المنن"، فقال عنه: "لما بلغ أبو العباس المرسي سن التعليم بعثه أبوه إلى المعلم ليحفظ القرآن الكريم، ويتعلم القراءة والكتابة والخط والحساب والفقه؛ فحفظ القرآن في عام واحد، وكان والده عمر بن علي من تجار مرسية، فلما استوت معارف أبي العباس، وظهرت عليه علامات النجابة ألحقه والده بأعماله في التجارة.

 

وعزم أبوه على الحج لبيت الله الحرام، فجمع أهله واستقلوا المركب حتى إذا قاربوا الشاطئ التونسي، هبت عليهم ريح عاصفة أغرقت السفينة، غير أن عناية الله تعالى أدركت أبا العباس وأخاه فنجاهما الله من الغرق. وقصدا تونس وأقاما فيها، واتجه أخوه محمد إلى التجارة، واتجه أبو العباس إلى تعليم الصبيان الخط والحساب والقراءة وحفظ القرآن الكريم.

الطريق إلى الله

وفي تونس كانت بداية طريقه إلى الله، حيث التقى بشيخه الذي يوصف بأنه والد الأقطاب، الإمام أبو الحسن الشاذلي، رضي الله عنه، عام 640 هـ. ويحكي أبو العباس المرسي عن ذلك فيقول: "لما نزلت بتونس، وكنت أتيت من مرسية بالأندلس، وأنا إذ ذاك شابٌ، سمعت بالشيخ أبي الحسن الشاذلي، فقال لي رجل: نمضي إليه، فقلت: حتى أستخير الله، فنمت تلك الليلة فرأيت كأني أصعد إلى رأس جبل، فلما علوت فوقه رأيت هناك رجلًا عليه بُرنس أخضر، وهو جالس عن يمينه رجل، وعن يساره رجل فنظرت إليه.

 

فقال: عثرت على خليفة الزمان، قال: فانتبهت فلما كان بعد صلاة الصبح جاءني الرجل الذي دعاني إلى زيارة الشيخ فسرت معه، فلما دخلنا عليه رأيته بالصفة التي رأيته بها فوق جبل زغوان، فدهشت فقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: عثرت على خليفة الزمان، ما اسمك؟ فذكرت له اسمي ونسبي، فقال لي: رُفعتَ إليَّ منذ عشر سنين"، ومن يومها وهو يلازم الشيخ أبا الحسن الشاذلي.

 

وبدأ أبو العباس المرسي في تلقي علوم التصوف على يد أبي الحسن الشاذلي، وقال له: "يا أبا العباس ما صحبتُك إلا لتكون أنت أنا، وأنا أنت". وبعدما تزوَّد بعلوم عصره كالفقه والتفسير والحديث والمنطق والفلسفة، جاء أوان دخوله في الطريق الصوفي وتلقيه تاج العلوم.

 

أمر نبوي 

في عام 642 هجرية، 1244م، رأى ابو الحسن الشاذلي، رضي الله عنه، في منامه أن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يأمره بالانتقال إلى الديار المصرية، فخرج من تونس ومعه أبو العباس المرسي، وأخوه عبد الله وخادمه أبو العزايم ماضي، قاصدين الإسكندرية على عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب.

 

قال الإمام أبو العباس المرسي، رضي الله عنه، يصف ذلك: "كنتُ مع الشيخ أبي الحسن الشاذلي، رضي الله عنه، ونحن قاصدون الإسكندرية حين مجيئنا من تونس، فأخذني ضيق شديد حتى ضعفت عن حمله، فأتيت الشيخ أبا الحسن، فلما أحس بي قال: يا أحمد.. قلت: نعم يا سيدي، فقال: آدم خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته وأسكنه جنته، ثم أنزله إلى الأرض قبل أن يخلقه بقوله: “إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”، ما قال: في السماء أو الجنة.

 

فكان نزول آدم عليه السلام إلى الأرض نزول كرامة لا نزول إهانة، فإن آدم عليه السلام كان يعبد الله في الجنة بالتعريف، فأنزله إلى الأرض ليعبده بالتكليف، فإذا توافرت فيه العبوديتان استحق أن يكون خليفة، وأنت أيضا لك قسط من آدم؛ كانت بدايتك في سماء الروح في جنة التعريف، فأُنزلت إلى أرض النفس تعبده بالتكليف، فإذا توافرت فيك العبوديتان استحققت أن تكون خليفة".

 

قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: فلما انتهى الشيخ من هذه العبارة شرح الله صدري، وأذهب عني ما أجد من الضيق والوسواس.

ويقول أبو العباس المرسي رضي الله عنه: لما قدمنا من تونس إلى الإسكندرية، نزلنا عند عمود السواري، وكانت بنا فاقة وجوع شديد فبعث إلينا رجل من عدول الأسكندرية بطعام فلما قيل للشيخ عنه قال: لا يأكل أحد من شيء من الطعام فبتنا على ما نحن فيه من الجوع، فلما كان عند الصبح صلى بنا الشيخ، وقال: أحضروا ذلك الطعام ففعلوا، وتقدمنا فأكلنا، فقال الشيخ: رأيت في المنام قائلًا يقول: أحلُّ الحلال ما لم يخطر لك ببال، ولا سألت فيه أحدًا من النساء والرجال.

 

 

واستقرا بحي كوم الدِّكة.. أمَّا الدروس العلمية والمجالس الصوفية، فقد اختار لها الشاذلي المسجدَ المعروف اليوم بجامع العطارين، وكان يُعرف وقتها بالجامع الغربي، وقد أقبل على هذه الدروس والمجالس، جمعٌ غفير من خواص الإسكندرية وعوامها. وبعد وفاة شيخه أبو الحسن الشاذلي تولى أبو العباس المرسي مشيخة الطريقة الشاذلية، وكان عمره آنذاك أربعين سنة، وظلَّ يحمل لواء العلم والتصوف حتى وفاته، بعد أن قضى أربعةً وأربعين عامًا في الإسكندرية، سطع خلالها نجم الطريقة الشاذلية في الآفاق.

الجريدة الرسمية