مرة كقطعة سكر .. حلوة كحبة قهوة
سندت رأسها إلى صدره، وقالت أحك لي حكاية، فأخذ يمرر أصابعه بين خصلات شعرها الذي يغطي نصف وجهها، وراح يقص عليها: «كانوا ألفا في السفينة، التي تتخبط في عرض البحر الهائجة أمواجه، بينما الريح تمزق أشرعتها.. غرقت السفينة، وغرقوا معها، حيث استقر نصفهم في القاع طعاما للأسماك، بينما طفى النصف الآخر على السطح يصارع الأمواج..
اقتربت سفينة إنقاذ، فهرعوا إليها، ما عدا هو.. ظل يقاوم ويسبح حتى وصل إلى قارب خشبي قديم..
هم ذهبوا داخل السفينة إلى الشاطئ، وبقي هو على القارب بلا مجداف.. بعد عقود، كان الناجون على متن سفينة الإنقاذ مجرد أسماء على شواهد القبور، بعدما أمضى كل منهم حياته بحثا عن علاج للصرع الذي أصابه جراء التجربة المميتة..
أما هو، فقد خلق حياة على القارب، وأصبح علامة يسترشد بها التائهون في عرض البحر.. بالنسبة لهم، كانت السفينة آخر فرصة للنجاة.. احتياج، والاحتياج لا يخلق حبا.. بالنسبة له، كان القارب خياره الذي اصطفاه ليبقى معه.. والحب هو أن تختار اللامعقول، قبلها واستلقى على الفراش، حتى تتوسد صدره.. ثم غاصا في حلم، أو ربما غاصا في الحقيقة التي بدت له حلما.
حبة رمل
على الشاطئ
تمشي الذاكرة حافية
فتعلق الرمال بين أصابعها
وحين ترفع قدمها لتخطو نحو الماء
يتساقط معظم الرمل
ويأتي الزمن فيلعق بعضه
ويمد الموج يده ليخطف ما تبقى منه
فقط، تظل حبة واحدة
تختبئ بين الأظافر
وعندما تنتعل الذاكرة حذائها
ثم تعود للبيت فتنزعه
تخرج حبة الرمل
تشم رائحة الجدران والأبواب القديمة
وتختلط بالغبار الذي تكشفه آشعة الشمس
قبل أن تستقر فوق برواز لصورة عائلية
في كل مرة تذهب فيها الذاكرة إلى الشاطئ
تعود بحبة الرمل الوحيدة التي نجحت في الاختباء بين الأظافر
وهكذا تكونت في البيت كومة من الرمل
كومة أقصر من لحظة وأطول من عمر.
فنجان شاي
يمكن لامرأة شابة بفستان حاكته بيديها العاريتين، أن تختصر لك الكون في فنجان شاي بمعلقتين من السكر وثلاث ورقات من النعناع الأخضر الزاهي، تصنعه بحب، وقت تكون الشمس المطلة من النافذة كالبرتقالة التي تسبح في بحر رمادي. حيث تجلس إلى طاولة المطبخ ذات المفرش الأحمر المضلع التقليدي، تحتسي مشروبها على مهل، بينما تنهل أنت من عينيها عسل الماضي دونما ارتواء.
فيما تغزل من شفتيها حكايات الطفولة الملونة المضحكة، وترى في عينيها الواسعتين عالما لا يشبه العالم. وحين تضحك تغزو جسدك فتبعثر خلاياه وتعيد ترتيب الفوضى داخلك، وتشكلك من جديد على هيئة طفل عائد إلى بيته القديم، فتتوه في عينيها فلا تدرك إن كان ما تراه متجسدا أمامك وتلمسه بيديك حلما أم أنه العالم الذي طالما حلمت به؟!
وجه بدون مساحيق
صديقتي.. امسحى المساحيق عن وجهك، دعيه يتنفس كزهرة أوركيد تراقصها الرياح، وامنحيه الفرصة ليشرق كشمس لا تحجبها الأضواء المصطنعة، فملامحك نقوش ساحرة في أسطورة غير قابلة للتكرار كلما داعبها الهواء انسابت نغمات يعجز أمهر العازفين عن تحريرها..
بشرتك صافية كصفحة نهر حين تتوقف الرياح عن تحريك الأشرعة.. وعيناك حبتا لؤلؤ تضحكان في قاع محيط بعيد وتعكسان آشعة الشمس الدافئة.. أما شفتاك فهما ثمرتا توت لا ينبت إلا في الجنة..
تلك الابتسامة الآسرة ليس لها أن تتوارى خجلا فلا تحجبيها.. وحرري شعرك من قيوده فقدره أن يحظى بقصيدة حب منسية تسافر به كالفراشات الملونة إلى حكايات الجدات.. وانشري عطرك المغلف برنة صوتك الطازجة، فهكذا حياة تليق بك أيتها البهية..
حبة قهوة
حبة القهوة هي اختصار لقصة الإنسان على الأرض، حيث أخذت مذاقها الممتع من رحلته الممتدة بما فيها من إثارة وصراع وتشويق، بينما المرارة هي كل ما واجهه من عناء في سبيل الوصول.
تبدأ الحكاية هناك.. حيث أبعد نقطة في الكون، الشمس لا تغيب أبدا، حتى في المساء تخالط بضوئها نور الشمس، لكنها أبدا لا تغيب.
وهناك، يجلس رجل مهيب، أبيض مثل الثلج، حتى شعر رأسه وشاربه ولحيته وجلبابه والعصا في يده والأرض المنبسطة تحت قدميه والأشجار والأزهار.. بياض ممتد بلا نهاية. أمام كوخه يجلس العجوز، فيما تقترب منه صبية بهية، سواد شعرها النازل حتى خصرها يخطف الأبصار، ملامحها الدقيقة وبشرتها الخمرية تسلب العقول.
في حضرة العجوز، تجلس الصبية، فيلقي عليها بندف من الثلج، وهي تهمس بقصتها في كفه فتنبت في يده حبة خضراء، يضعها في عين الشمس.. عين الشمس التي لم تذوب الثلج يوما، لم تبخل بحرارتها على الحبة التي صارت بنية اللون.
أخذت الصبية الحبة، فطحنتها بضروسها، وابتلعتها مع ندف الثلج الناصعة، فاستحالت الصبية شجرة وارفة، تبوح بأسرارها لمن يشرب مسحوق حبوبها.