صحافة أتلفها الهوى!
لم يعتمد المصريون على الإنترنت كمصدر للأخبار، إلا مع ظهور موقع اليوم السابع، الذي اعتمد على ضخ أكبر كم من الأخبار يوميا وعلى مدار الساعة، بعدما كانت الصحافة قاصرة على طبعات ورقية صباحية بشكل أساسي، ثم لاحقا طبعات مسائية لمواكبة سرعة تدفق الأخبار، في ظل منافسة مع الفضائيات، التي تملك الفرصة لنقل الأحداث لحظة وقوعها أحيانا.
وبعد سنوات من بداية الألفية الجديدة، بدأت معظم المؤسسات الصحفية القومية والخاصة تنتبه إلى ضرورة الاعتماد على إصدارات إلكترونية، وإن كان تفوق الخاصة على القومية في هذا المضمار أمرا جليا لاعتبارات لا مجال للحديث عنها الآن، مع حتمية الاعتراف بأن صناع الصحف الخاصة هم في الأساس من أبناء المؤسسات القومية!
على طريقة الكرة
قبل ظهور المواقع، وفي ظل الصحافة الورقية، كان الأمر أشبه بـ كرة القدم في عصر ما قبل الاحتراف حين كان كل اللاعبين هواة، لهذا كانت الفرص تتاح فقط للموهوبين، من أصحاب القدرات والمهارات سواء على مستوى الكتابة والصياغة، أو على مستوى الذكاء والهمة في جلب الأخبار والوصول إلى المصادر.
وفي مهنة الصحافة مثلا، هناك من يعرفون بـ الديسك، وهم – في الصحافة الورقية – أقرب إلى الأدباء، إذ يمتازون بسلامة اللغة وقوة الأسلوب والقدرة على الكتابة بشكل يجذب القارئ ويجعله يواصل مطالعة الخبر أو التقرير والتحقيق والحوار إلى آخر كلمة..
وفي المقابل، ومع ظهور الصحافة الإلكترونية ندر وجود الديسك مان الموهوب، وباتت الفرصة سانحة للجميع: موهوب ومجتهد وغير موهوب.. بل أصبحت الأفضلية لـ الأسرع في إنجاز الخبر.. ما أثر على جودة الكتابة وسلامة اللغة من حيث دقة اختيار المفردات وانتقاء الأسلوب والتزام السياسة التحريرية.
وعزز ذلك احتياج الصحافة الإلكترونية، مع تعدد المواقع الإخبارية، إلى عدد كبير من الصحفيين، ما يعني أن معايير الجودة ستنخفض عند اختيار المحررين. كذلك، تسبب الإيقاع السريع للأحداث واختلاف الوسيط الذي تقدم من خلاله الصحافة في عدم الاعتناء ببعض المراحل الأساسية في عملية الصياغة ومنها ضرورة مرور الخبر على المدقق اللغوي، ما يتسبب في وجود الكثير من الأخطاء الإملائية والنحوية وغير ذلك.
عصر السوشيال ميديا
زمان، في عصر الصحافة الورقية، كان ظهور شخص ما على صفحات جريدة أو مجلة حدثا كبيرا يستحق الاحتفاء، فكنت ترى مثلا النجم الممثل يفتخر بوجوده على غلاف الكواكب، وكذ النجم الرياضي الذي يغلف حواره المنشور في الأهرام ويبروزه ويعلقه على الجدار. أما في عصر السوشيال ميديا، فأصبح لكل شخصية مشهورة صفحات وحسابات رسمية، يطل من خلالها على جمهوره بل ويتفاعل معه لايف، ما قلل من سعي النجوم إلى الصحافة.
ذلك التواصل المباشر بين النجم وجمهوره، جعله يغير من طريقة تعامله مع الصحافة، فرأينا ممثلين ولاعبين وسياسيين وغير ذلك يتهربون من الصحافة، وإن حدث وقبل إجراء حوار –مثلا– فإنه يشترط ألا يكون حصريا لجريدة أو مجلة واحدة، فيجري الحوار مع مجموعة من الصحفيين في الوقت نفسه، لهذا نرى الحوار الواحد مكرر في معظم الإصدارات!
الفرخة أم البيضة؟!
وهناك إشكالية يصعب تفكيكها وتحليلها، لمعرفة حقيقتها والوصول إلى أسبابها، وهي من السبب وراء تهافت الصحافة على مطاردة الأخبار التافهة أو ما يعرف بصحافة الترند والترافيك وغير ذلك من مصطلحات أنتجها واقع افتراضي؟!
يقول البعض إن الصحافة تحاول تلبية رغبة القارئ، الذي يهتم لأخبار من نوعية «استيقاظ النجمة الفلانية من نومها» و«شاهد فلان وهو يشرب الماء في الجيم» أو «انفصال أحمد وزينب».. و.. إذا العيب في القارئ. فيما يقول آخرون العيب فيكم يا في صحافتكم.. أما القارئ يا روحي عليه، فهو يلتهم ما يقدم له، وبذلك يكون العطب على الصحافة.
ربما يبدو الأمر أشبه بمعضلة الفرخة والبيضة.. أيهما كان الأول؟! لكن الحقيقة التي لا خلاف عليها، أن شبكة الإنترنت، قدمت للصحافة خدمة جليلة، ووفرت لها وسيطا جديدا غنيا، كان عليها أن تستغله وتطوعه، لا أن تنساق وراءه.
سياسة قطع اليد
وأخيرا، منذ سنوات ونحن نتابع إغلاق وإلغاء ودمج الكثير من الإصدارات الورقية، التي شكلت جانبا من وجدان وذاكرة المصريين على مدار عقود طويلة، بداعي أنها تخسر، أو لأنها لم تعد تقدم للقارئ ما يستحق بقاءها، غير أن –ومع وجاهة بعض المبررات– الأمر أشبه بأن تذهب إلى طبيب تشكو ألما في يدك، فيقرر قطعها لا علاجها!
لا أبرئ ساحة أهل الصحافة –وأنا واحد منهم– مما حدث ويحدث، ومع ذلك، فالكرة في ملعب الحكومة والمسئولين عن الإعلام، وأول واجباتهم هو اختيار الكوادر المناسبة القادرة على التطوير وإعادة القطار إلى قضبانه.