قرية مصرية ضد التطرف
البهنسا ليست مجرد مساحة على الخريطة.. ليست مجرد قرية مصرية صغيرة.. بل هي تصغير جغرافي ومكاني لمصر كلها؛ بتاريخها وحضاراتها وجمالها وتسامحها وترحيبها بالآخر واحتضانها للغريب. مصر لم تكن يومًا موطنًا للتطرف والتشدد، ولم تكن يومًا موئلًا للإحن والتطاحن، والاقتتال على القوت والأموال والمكاسب الدنيوية. هكذا بدا الحال في موقعة البهنسا، والتي تدحض مزاعم البعض بأن المسلمين كانوا غزاة وغاصبين.
الحق المبين
الكرامات التي وقعت لجنود الجيش العربي تثبت أنهم كانوا على الحق المبين، وأن من رحبوا بهم وساعدوهم من أهل البلاد قد أصابوا اختيار الطرف الصحيح. حب الجنود لبعضهم، وتضحية الفرد لصالح المجموع، والتطوع والإخلاص والتضحية والتفاني من أجل الجماعة، كلها معانٍ ازدهرت في الصدر الأول للإسلام، حيث كان الدين لم يزل غضًّا، وكان الصحابة ينتشرون بين الناس، ويغرسون فيمن يدخل الدين لتوه قيمًا ومثُلًا اكتسبوها من الرعيل الأول، والصحب المقربين من نبي الأمة، صلوات ربي وتسليماته عليه، وعلى آله.
حب آل بيت النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، واحترامهم وتوقيرهم كان إحدى سمات المسلمين في ذلك الوقت الجميل، وأحد شروط اكتمال الإسلام التي كان يحرص عليها الناس كدليل على حسن التدين، ووسيلة لنيل رضا الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، والجدارة بشفاعته يوم القيامة.
التيارات الدينية المتشددة
البساطة في الدين، وعدم الكلكعة، والفذلكة، والتنطع، والتطرف، إنه الإسلام على حقيقته، قبل أن تخربه تخاريف التيارات الدينية المتشددة، وأكاذيب الإخوان، وأفكار الإرهاب. قبور آل البيت، والصحابة وأمراء التابعين والصالحين والأولياء وكبار الشهداء تعلوها قباب، ربما كتكريم لأصحابها، أو لتمييز المقابر عن غيرها من قبور العوام.. لا ندري ما الحكمة.
ولكن فتح البهنسا كان نحو عام 22 من الهجرة، أي لم يكن قد مر على انتقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الرفيق الأعلى، سوى بضع سنوات، وقد كان الدين لا يزال ناصع الثوب.. ولو كان إنشاء القباب على المقابر، وإقامة المساجد حولها، أو بالقرب منها إثمًا، ومخالفًا للشرع الحنيف لكان الصحابة المعاصرون لفتح الصعيد أول من يبطلها، ويقدم على هدمها.
عقبة بن عامر
من بين الصحابة الذين ضربوا بسهم وافر في فتح الصعيد عقبة بن عامر الجهني، رضي الله عنه، والذي اشتهر بلقب رديف النبي، حيث كان يَشْرُفُ على الإمساك بزمام البغلة التي يمتطيها سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وكثيرًا ما كان النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يردفه خلفه عليها.
ولمعلوماتكم، فإن عقبة كان واليًا على مصر لنحو 3 سنوات، ودفن في مقابر سفح المقطم، ومقام على قبره قبة ومسجد، ودفن بجواره نحو 70 صحابيًّا؛ أشهرهم قائد الجيش عمرو بن العاص. وعقبة بن عامر كان يحظر على أولاده سماع وقول الشعر؛ لأنه في رأيه يلهي عن ذكر الله.. شخص كهذا هل كان سيسمح بالإقدام على أي مخالفة، مهما صغرت؟! وغير عقبة كان هناك الكثيرون ممن شهدوا معركة بدر، أي أنهم عاصروا الرسالة المحمدية منذ بدايتها.
حضارات مصر
في البهنسا، والتي يحلو لأهلنا في الصعيد أن يطلقوا عليها البهنسا الغراء؛ لكثرة الدماء الزكية التي أهرقت على ثراها، تشاهد كل الحضارات مجتمعة، وآثارها متلاصقة سواء فرعونية وقبطية ورومانية وإسلامية، دون أن تطغى إحداها على الأخرى.
لا شك أن كل ما ذكرناه يكشف أن الإسلام، وتاريخه، تعرض للتشويه المتعمد، عن سوء نية، وقام مغرضون بحشر ما يريدون فيه، ودسوا بين ثناياه ما استهدفوا نشره.. لأسباب ليست خافية على أحد. استهدفوا تبغيض الناس في آل البيت الأطهار، والحط من شأنهم، والعياذ بالله، والتقليل من قيمة حبهم، حتى وصلوا إلى مبتغاهم من نشر التنافس والتباغض والتباعد بين المسلمين، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه من فرقة.
استهدفوا بث التطرف والتشدد والإرهاب، وتصوير الدين على أنه مجرد شعائر وطقوس يجب أن تؤدى بإتقان، فقط، وأن هناك ما يشبه العداد أو الآلة الحاسبة، ليس على المسلم سوى أن يرصَّ فيها الحسنات بالحركات والتصرفات والكلمات، بلا وجود للنيات والمشاعر والأحاسيس، والحب والتسامح والإيثار والزهد والكرم.. وهكذا تحولت العبادات إلى عادات ومظاهر.
اذهبوا إلى البهنسا.. لتعاينوا الدين الإسلامي على حقيقته، قبل أن يشوه صفحته الناصعة التيارات الدينية المتشددة، والإخوان، ولتكتشفوا عبقرية التاريخ والجغرافيا في مصر، على طبيعتها، وبفطرتها التي فطرها الله عليها، قبل أن تتواتر عليها المؤامرات، وتشوه جمالها الغزوات الفكرية والعسكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.